نهاية زعيم شيعي
تاريخياً لم يكن للحركة الإسلامية السنية والشيعية في العراق “الحزب الإسلامي والدعوة” وجود مؤثر بين الأحزاب والحركات الوطنية العراقية القومية واليسارية والديمقراطية. لسبب بسيط هو أن مرحلة سياسية طويلة في العراق وبلاد العرب امتدت قرابة القرن كانت تحدياتها قومية تحررية استقلالية ضد الاستعمار والسلطات المحلية العميلة.
في العراق لم يبتعد علماء الدين الشيعة في النجف عن المناخ السياسي، بعضهم كان مهادناً للسلطات والبعض الآخر كان معارضاً مندداً، وكان لطهران منذ وقت مبكر دور في تلك المواقف والقصة فيها تفصيلات كثيرة ليس مجالها هذه السطور. الفصل التاريخي المهم في صعود حركة حزب الدعوة في العراق هو الحرب العراقية – الإيرانية حين تحوّل هذا الحزب، وكذلك المجلس الإسلامي لمحمد باقر الحكيم بعد تشكيله من الأجهزة الاستخبارية الإيرانية، إلى أداة سياسية وميليشياوية لدعم الجبهة الإيرانية ضد الجبهة العراقية في تلك الحرب وما بعدها.
هذا الفصل التاريخي المهم في التاريخ العراقي المعاصر يشكل الأساس في تفسير المواقف والأحداث سواء خلال فترة ما سمّي بالمعارضة العراقية ضد النظام العراقي السابق قبل 2003، أو بعد تسلمها سلطة الحكم في ذلك العام بغباء إدارة بوش أو الدهاء المفرط لقوى اليمين الأميركي في مشروع تدمير العراق حيث نفّذت مع أدوات إيران شراكة لئيمة ما زالت قائمة.
صفقة شراكة السلطة الطائفية التي صنعها الأميركان غبية شكلت تجاوزا على واقع الحركة الوطنية العراقية بمختلف تياراتها وانحازت إلى فكرة استلام “الشيعة” للحكم استنادا إلى معادلة زائفة قالت إن السنة هم الذين حكموا العراق منذ 1400 عام، منحت للتيار الشيعي الذي تقدم فيه، في بداية مشوار الطائفية اللئيمة، مسؤول حزب الدعوة إبراهيم الجعفري الذي ناور في الأيام الأولى حول إعلان صلتهم بطهران، ثم اضطر بعد ذلك إلى كشف تبعيته بعد أن تقدّم الواجهة مجلس آل الحكيم الممتلك لميليشيا بدر رغم القتل المُدبر لرئيسه محمد باقر الحكيم.
قيادات حزب الدعوة وكوادره الفكرية لا يؤمنون بوجود حركة سياسية شيعية غير حركتهم، لهذا بدأ الصراع منذ الأيام الأولى لحكمهم الذي تحوّل إلى شركة نفعية مافياوية لتقاسم المال والسلطة بين قياداتهم، وبينهم وبين حلفائهم الرئيسيين الأكراد المدعومين استراتيجياً من واشنطن. كذلك موجات شلل سنة السلطة الذين تبدلت أشكالهم وعناوينهم تبعاً لقوة النفوذ التي صنعتها المصالح الجديدة.
فكرة بناء دولة عراقية جديدة كانت غائبة عند حزب الدعوة وقائده نوري المالكي وكوادره النافذين، مثلما هي فكرة الديمقراطية، التي حلّت محلها نظرية سيادة الحكم الطائفي الولائي تحت عناوين استبدادية آخرها مقولة “أغلبية المكون الشيعي” لقيادة الحكم واعتبار كلّ من الأكراد والسنة تابعين، ثم فيما بعد انكشفت أكذوبة “المكوّن” حين تم إقصاء فصيل شيعي كبير هو التيار الصدري.
تحكمت في عقل المالكي فكرة الزعامة الشيعية والعراقية، لذلك يقول “حين تسألني أقول لك إنني شيعي أولاً ثم عراقي”. اعتقد أنه يغازل بقوله هذا العاطفة الشيعية الشعبية، لكنه غزل تحول إلى عنوان للفساد وإفقار المواطنين في مقدمتهم أبناء الشيعة.
أُختصر حزب الدعوة لغياب مشروعه السياسي بشخص المالكي وسياساته خاصة ما بين 2006 – 2014، حيث تحكّم شخصياً وقاد مفاصل السلطات التنفيذية المدنية والعسكرية وأشرف على جميع السلطات التشريعية والقضائية، وبدل طرح مشاريع للبناء الوطني وإعادة الحياة للدولة العراقية وتنمية المجتمع وإشاعة السلم الأهلي، كرّس سياساته على الكراهية والاحتراب الأهلي باستهداف جنوني للعرب السنة بحملات القتل والاختطاف والتغييب، ولم يكن متحرّجاً من إعلاناته الطائفية وبرنامجه الحربي “حرب جيش الحسين ضد جيش يزيد” وهو شعار حربي نطق به رئيس وزراء العراق خلال فترة حكمه.
اشتغل المالكي بعقل الطاغية والدكتاتور رغم إعلانه المتواصل بأنهم قضوا على دكتاتورية صدام حسين وطغيانه. لم يعد حزب الدعوة بالنسبة إليه سوى مواسم انتخابية داخلية متباعدة، وأغرق كوادر الحزب بامتيازات السلطة والمال. عشرات الألوف من الأميين والجهلة تحكموا بمختلف السلطات، وكانت براعتهم الأساسية بعدم السماح وفق الوصفة الطائفية لعراقيّ من المحافظات الغربية بالحصول حتى على حقوقه الطبيعية.
لا يعثر أيّ متابع أو مراقب في سياساته ولا خطاباته كحاكم للعراق لثماني سنوات أيّ مبادرة للانفتاح على المحيط العربي حيث مكانة العراق التاريخية. كانت هناك فرص كثيرة لمعاونة العراق في مشاريع الاستثمار والتنمية، لكنه نفّذ وصايا الولي الفقيه علي خامنئي بغلق الباب لأن العرب “متآمرون يبعثون فرق الإرهاب”. كانت تلك الفرصة الذهبية لإيران للاستفراد بنفوذ البلد وبعد ذلك صناعة الحرس الثوري العراقي فيه باستثمار ذكي لحرب العراقيين ضد فلول داعش 2014 – 2017.
المشكلة التي واجهت المالكي، وهو يتجاهلها بتعمد، هي أن فترة حكمه لثماني سنوات كانت الفترة الذهبية لمافيات النهب والفساد في أعلى القيادات الحكومية والحزبية، إضافة إلى قصة احتلال داعش للمحافظات الغربية وكارثة سبايكر. الحقائق والوثائق الكثيرة التي نشرت وتنشر الآن بينت مشاركته المباشرة في عمليات نهب المال سواء في صفقات الأسلحة أو صفقات شركات الكهرباء وغيرها. فضح أحمد الجلبي قبل قتله بأشهر صفقة الطائرات “الخردة” من جمهورية التشيك وتورّط المالكي فيها، ويقال إن مسلسل الفضائح التي أعلنها الجلبي كانت سبباً في دس السم له في الثالث من نوفمبر عام 2015.
حول فضيحة داعش كشف ضابط سابق في مكتب رئيس الوزراء نوري المالكي اسمه محمد ضني في فيديو على مواقع التواصل الاجتماعي أن قاسم سليماني والمدعو علي الدقدوق من حزب الله اللبناني حضرا إلى العراق وعقدا مع المالكي اجتماعا في مسكن خالد العطية تقرر خلاله إدخال تنظيم الدولة عبر الموصل، وقال له زميله الضابط الآخر إن قاسم سليماني قرر حرق العراق.
لم يكن المالكي مكتفياً بالزعامة السياسية خارج السلطة، مع أنه ظل متمتعاً بجميع مظاهرها لدرجة احتفاظه بمكتبه لرئاسة الوزراء في المنطقة الخضراء. كما أنه يمتلك المال الوفير والوجاهة بين الزعامات الشيعية التي تخشاه لأنه يمتلك لكل واحد منهم ملفه، ولا يتردد بإعلان أبويته لمشروع الحشد الشعبي منذ عام 2013. كان يخطط للعودة إلى رئاسة الوزارة متحدياً الموقف السلبي للمرجعية الشيعية منه في ظل ظروف سياسية داخلية معقدة انكشفت خلالها كل الأوراق بسبب تأثيرات ثورة شباب أكتوبر 2019 وما بعدها.
من أخطاء المالكي القاتلة أنه تجاهل حقيقة أن الزعامة والقيادة لأيّ بلد ديمقراطي أم غيره لا تتحقق عن طريق الفرض بالقتال بأدوات ميليشياوية مهما كان حجمها، أو شراء الذمم بالمال. الزعامة تنتجها الإنجازات للشعب، كذلك تبرز القيادة الوطنية الناجحة حين يتعرض البلد لمخاطر خارجية، هاتان الحقيقتان ابتعدتا عن حقيقة المالكي.
جمهور المالكي لا يتعدى الآن مجموعة النواب الذين يترأس كتلتهم البرلمانية. حتى أولئك المرتزقة الذين كانوا يترددون على مكتبه لتقديم الخدمات الاستشارية السياسية والإعلامية مدفوعة الثمن انفضوا عنه. أحدهم قال لي “المالكي كان يستهزئ من الدراسات والتقارير مردداً: لا أحد يقرأ دراسات، لكنه يدفع لأصحابها لكسب ولائهم”، الأمر ينطبق على بعض الإعلاميين ومقدّمي البرامج المرتزقة الذين ما زالوا يقبضون منه المال رغم عملهم في قنوات يفترض أن نهجها لا يتطابق كلياً مع المالكي.
الحلقة الأخطر التي أوقعته بما هو فيه الآن صراعه المتصاعد مع القائد الشيعي مقتدى الصدر، ووصوله إلى مستويات رخيصة كشفتها تسريبات التسجيلات الأخيرة. هذا الصراع أسقط مشروع المالكي الطائفي “الشيعي” لأن المتصارع هو شيعي أيضا وبذلك تسقط كل المعادلة الطائفية التي يقوم عليها مشروعه.
انهيار زعامة المالكي تحققت لدى شعب العراق منذ سنوات، لكن ما يحصل الآن هو انهيار المنظومة السياسية “الشيعية” جميعها لأن عمودها الفقري هو المالكي ذاته. واقع الحال يقول إن انهيار زعامة نوري المالكي أنهت حزب الدعوة أيضاَ، تسريبات مجيء قيادة جديدة للحزب أكذوبة، كما أن الزعامات الشيعية المعمّمة وغير المعممة غير قادرة على مواصلة التحكم في قيادة العراق، ذلك أن جميع هذه القيادات غارقة اليوم في كيفية تصريف الأموال المسروقة وتخليصها من حكم الشعب المقبل. هم يعلمون بالتفصيل أن الأميركان والبريطانيين لديهم جميع الوثائق المالية المسروقة من العراق.
السفينة غرقت، لن يتمكن مقتدى الصدر من إنقاذها، هذه النهاية حتمية لمن قتل العراقيين وأفقرهم وجوّعهم.
العرب اللندنية