اقتحام البرلمان… كوميديا العراق السوداء
لماذا لا يثير إحتلال مبنى البرلمان العراقي، في المنطقة الخضراء في بغداد، مشاعر الحماس كما أثار إحتلال المحتجين القصر الرئاسي في سريلانكا والذي وصل الحماس له إلى الشعوب العربية ليمنحها بعض التفاؤل؟
هل لأن محتلي المبنى، ببغداد، لا يمثلون الشعب على الرغم من إدعائهم بأنهم الشعب المسحوق؟ أم لعلها الطائفية التي بعد أن حققت نجاح استقطاب السلطة لصالح الأحزاب والميليشيات الإسلامية ذات المذهب الواحد، في السنوات العشرين الأخيرة ومنذ غزو العراق عام 2003، وفي غياب العدو المشترك الموحد لها، أوصلت دودة الأرضة / الفساد إلى أرض «أهل البيت» لتنخر «البيت» من الداخل؟ ولكن… ماذا عن راية الإصلاح التي رفعها المقتحمون داخل المبنى وهم يتقافزون على الكراسي، وداخل المكاتب ويصورون أنفسهم داخل المرافق الصحية متحدثين عن توفر الماء والكهرباء للبرلمانيين بينما يُحرم الشعب منها؟
أليست هذه هي روح الشعب المسحوق المُنتفض ضد الفساد، ومن حقه استعادة ملكية المبنى وتحويله، إلى ما يشاء، ولو كان ما يريده ساحة إضافية أخرى لأداء طقوس النواح واللطم؟ أم أن غياب الحماس باقتحام مبنى هو رمز للفساد، الموجود في منطقة محصنة هي رمز للاحتلال، سببه اليأس من إسطوانة مشروخة، لكثرة التكرار، من قبل قائد التيار الصدري، حتى بات تجسيدا لبيضة لن يخرج منها عصفور، كما يقول الشاعر الراحل مظفر النواب؟
هناك أسباب كثيرة تدعو إلى عدم التفاؤل باقتحام البرلمان ليس من بينها عدم الإيمان بضرورة التغيير وقدرة الشعوب على التغيير والعيش الكريم في وطن يتسع للجميع. إلا أن اقتحام البرلمان العراقي يختلف عن اقتحام المتظاهرين للقصر الرئاسي في سريلانكا، الذي وقع بعد احتجاجات جماهيرية ومظاهرات عارمة، استمرت لفترة طويلة وعّمت أرجاء البلاد، مطالبة باستقالة رئيس الدولة ورئيس الوزراء، بعد أن أعلن الأخير انهيار اقتصاد البلد بالكامل، في أسوأ أزمة اقتصادية منذ استقلال البلاد عام 1948، بالإضافة إلى معاناة الناس من نقص حاد في الغذاء والوقود والأدوية. وعلى الرغم من معاناة العراقيين من نقص الأساسيات، وهي نقطة تشابه مع سريلانكا، إلا أن حيثيات اقتحام البرلمان تختلف من عدة نواح لعل أبرزها أولا: أن العراق واحد من الدول الغنية في العالم، وقد وصل دخله من النفط، حاليا، أعلى نسبة في تاريخه. ثانيا أن عملية الاقتحام اقتصرت على أتباع مقتدى الصدر، قائد التيار الصدري وميليشيا سرايا السلام الشيعية.
ثالثا: جاء الاقتحام احتجاجا على ترشيح منافس للتيار الصدري، من قبل تكتل شيعي آخر يُدعى الإطار، لمنصب رئيس الوزراء، بناء على مناورات سابقة أرادها الصدر استعراضا لشعبوية قيادته للتيار والميليشيا. من بين المناورات التي شغلت البلد وعطلت حياة الناس: الأمر بانسحاب البرلمانيين الصدريين، صلاة الجمعة الموحدة، والإعلان عن مؤامرات تهدف إلى اغتيال الصدر بعد أن قام الناشط الحقوقي علي فاضل بتسريب أشرطة لرئيس الوزراء السابق نوري المالكي احتوت لخطورة تحريضها على العنف، ما كان يجب أن يُقدم على أثرها المالكي للمحاكمة. رابعا: أن قائد مقتحمي البرلمان لا يمثل الشعب ولا حتى الأغلبية، بل غالبا ما يتم تضخيم دوره حسب الحاجة لإثارة العنف والفوضى.
وما يزيد من محدودية «التيار الصدري»، تقّلب سلوك زعيمه من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار بسبب حالة الصعود والهبوط النفسي الحاد الذي يعاني منه منذ طفولته ويتبدى بشكل واضح في خطبه ولغته وسلوكه. خامسا: أن عدد المرات التي ساند فيها الصدر الفاسدين ومجرمي الحرب وأبرزهم عدوه الحالي نوري المالكي تجاوزت اصابع اليد الواحدة، بل والأدهى من ذلك أنه كان أحد الاسباب الرئيسية التي لعبت دورا حاسما في القضاء على مظاهرات تشرين/ أكتوبر 2019 لأنها مثّلت صوت الشعب العراقي فعلا، وأحيت الأمل باسترداد الوطن إلى أن أدرك الصدر وأتباعه أنها ستُحدث تغييرا سياسيا حقيقيا مما يهدد شعبويته، فأرسل أتباعه وميليشياته لتفريقها.
ومقتدى الصدر ليس فريدا من نوعه في مزاجيته المرضية المنعكسة بقوة على الوضع السياسي، فالفضل الأول يعود الى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الذي حفّز بخطبه وتلفيقاته مشاعر العنصرية و«الوطنية» الزائفة. حتى يكاد اقتحام البرلمان العراقي مطابقا للهجوم على مبنى الكونغرس بواشنطن وأحتلاله من قبل أتباع ترامب، المطالبين بإيقاف التصديق على فوز جو بايدن في الانتخابات الرئاسية، وبقوا في المبنى لأكثر من ثلاث ساعات قبل أن يطلب منهم ترامب، الذي كان متمتعا بمراقبتهم عبر شاشة التلفزيون، العودة إلى ديارهم. بذات الايقاع، بقي أتباع الصدر في البرلمان، في الاقتحام الأول، مدة ثلاث ساعات، إلى أن وصلهم أمر مقتدى، مغردا «وصلت رسالتكم… أيها الأحبة فقد أرعبتم الفاسدين عودوا لمنازلكم سالمين».
في ذات الوقت، سرّب نوري المالكي، منافس الصدر الأقوى في احتلال المناصب الوزارية والمؤسساتية من «البيت الشيعي»، صورا له وهو يحمل سلاحا وسط مجموعة من حراسه داخل المنطقة الخضراء. كانت رسالة الصور المُسرّبة واضحة. أنها تُعبرعن جدية المالكي في تطبيق ما صرح به ذات يوم بأنه «لن يعطي» السلطة لغيره، وإن كانت رسالته حينئذ موجهة كتهديد لمن يتجرأ على معارضته من السنة وليس الشيعة كما يحدث الآن، مما يُثبت أن كوكتيل التشبث بالسُلطة والفساد أقوى من الولاء المذهبي. فأيقن الصدر أن الاقتحام الأول لم يُحدث التأثير المطلوب بل جاء لصالح منافسيه، فكان الاقتحام الثاني مدعوما هذه المرة بحضور المسؤول العام لميليشيا «سرايا السلام» لاستعراض قوة السلاح بمباركة الصدر الذي نُشرت له صورة وهو يقرأ القرآن ومخاطبا المقتحمين «داعياً الله.. لكم أيها الأحبة بالحفظ والسلامة والنجاح». ليواصل وأتباعه التظاهر بالنزاهة والتدين والوطنية بينما، كانوا ولايزالون، يتحكمون بأكثر إدارات الدولة ومؤسساتها فسادا وإرهابا، وما يقومون به الآن من اعتصام هو مجرد استمرارية لكوميديا سوداء يدفع العراق ثمنها غاليا تحت مٌسميات مُتغيرة حسب جهة التسويق.
القدس العربي