تايوان: أزمة في محيط دولي مضطرب
حبس العالم أنفاسه عقب الإعلان عن زيارة رئيسة مجلس النواب الأمريكي نانسي بيلوسي إلى تايوان، فقد كانت هذه الزيارة تمثل تحدياً غير مسبوق للصين، التي تعتبر أن هذه المنطقة هي جزء من أراضيها.
لم تخل العلاقة الأمريكية مع الصين خلال السنوات والعقود الماضية من تنافس، وهو ما كان واضحاً إبان حقبة الرئيس ترامب التي أظهرت الصين كتهديد استراتيجي، ما استدعى شن حرب اقتصادية عليها. مع هذا، فإن التجرؤ على القيام بهذه الزيارة كان يمثل استفزازاً متهوراً، هكذا، وبينما كانت الطائرات الحربية ترافق طائرة بيلوسي كان متابعون يحذرون من اندلاع حرب كونية. لحسن الحظ، فإن الحرب المنتظرة لم تحدث وانتهت الزيارة القصيرة بسلام، لكن التوتر في المنطقة لم ينته، حيث ما لبثت الصين أن أعلنت أن الولايات المتحدة وتايوان سوف يدفعان الثمن، لم تكتف الصين بذلك، بل بدأت مناورات عسكرية وصلت حتى مسافة قريبة من العاصمة التايوانية، تايبيه.
السؤال الذي يصعب أن نجد له إجابة هو: لماذا لجأت الولايات المتحدة لهذه الخطوة، لحد تصريح بيلوسي أن بلادها لن تسمح بعزل تايوان؟ هل أراد الأمريكيون إرسال رسالة تضامن إلى البلد الذي يشعر بتهديد منذ اندلاع الحرب الأوكرانية؟ أم إلى الصين بتذكيرها بأن الولايات المتحدة ما تزال هي القوة العظمى في العالم، وأنه لا يمكن تحديها أو تهديد أصدقائها؟ بالنسبة لكثير من المتابعين يؤكد مرور الزيارة من دون رد فعل عنيف من جانب الصين، على أن هذه الدولة لن تتجرأ، على الأقل في الوقت الحالي، على خوض معركة مفتوحة مع الأمريكيين، ربما يكون التحدي ممكناً في نواحي الممانعة الاقتصادية أو الثقافية، لكن حينما يتعلق الأمر بحرب فعلية، فإن الأمر يختلف. الصين التي تريد أن تجد لنفسها مكانا على الطاولة ضمن الكبار، قد لا يعجبها أن يستنتج الناس أنها غير قادرة على خوض التحدي، سيكون هذا هو سبب الخشية من أن تقوم بعمل عسكري في المنطقة لإثبات وجودها. المشكلة هي أن ترديد عبارات من قبيل، أن العالم الحر سوف يقف مع تايوان، النموذج الديمقراطي المناوئ للاستبداد الصيني، كما وقف مع أوكرانيا، لا يبدو مطمئناً بقدر ما يبدو مشجعاً لتحرك عسكري صيني ضد تايبيه، فسوى بعض الدعم المحدود والتضامن في مجالات الثقافة والرياضة والثناء الزائد على الرئيس الأوكراني زيلينسكي، فإن العالم لم يقدم الكثير لمنع انزلاق الأمور إلى الفوضى في أوكرانيا، التي أصبح حالها، بعد كل هذه البيانات والتغطيات والتضامن الإعلامي، يدعو للرثاء. أما اليوم، فإن آخر ما ينتظره التايوانيون هو أن نخبرهم بأن مصيرهم سيكون كمصير أوكرانيا. في هذا السياق لا يكون لوصف بيلوسي لتايوان بأنها «أكثر بلاد العالم حرية» ثمن كبير في سوق السياسة الواقعية. الشبه مع الحالة الأوكرانية كبير، حيث تسبب الغرب في هذا الانزلاق التراجيدي للأحداث هناك، حينما أوحى بإمكانية قبول أوكرانيا الموجودة ضمن النطاق الحيوي الروسي في تجمعه الأمني، حلف شمال الأطلسي. لاحقاً سوف نعلم أن الأمر لم يكن بهذه السهولة، وأن الكثير من الوقت ينتظر أوكرانيا حتى تصبح عضوا في الاتحاد الأوروبي، أو الناتو المتردد في قبول ملفها. كان بإمكان الدول الغربية أن تكون أكثر وضوحا في ذلك منذ البداية، وأن ترسل رسائل مطمئنة إلى موسكو بالقول إن انضمام أوكرانيا غير ممكن، ما كان سيجنب المنطقة هذا الصراع.
الأزمة التايوانية ليست سوى أحد التعقيدات المرتبطة بالحرب الأوكرانية، فبالإضافة إلى الانقسام العالمي بين المعسكرين الروسي والأمريكي والتأثيرات الاقتصادية والاجتماعية العالمية لهذه الحرب، فإن هذا الصراع المستمر منذ أشهر ساهم في إضعاف مكانة الولايات المتحدة، التي لم تستطع ردع روسيا، ولا إجبار جميع دول العالم على مقاطعتها، بل إنها لم تستطع حتى التحكم في توجيه موارد الطاقة الخليجية، بما يكفي لسد النقص وتعويض الفاقد. في المنطقة الخليجية الحليفة بدأت هذه المكانة بالاهتزاز منذ أن تعاملت الولايات المتحدة ببرود مع التهديدات الأمنية والهجمات الإيرانية، التي أظهرت أن التحالف مع الأمريكيين لا يمكن التعويل عليه. ساهم ذلك في تسريع خطوات المصالحة بين دول الخليج العربية، وفي تطبيع العلاقات مع تركيا التي بدأت تعود كشريك استراتيجي بعلاقة طيبة مع أغلب دول المنطقة. هذا الاهتزاز في النظرة إلى الأمريكيين، الذي يشمل حتى الدول الأوروبية التي يعتبر بعضها أن الولايات المتحدة لم تفعل الكثير من أجل حماية الأمن العالمي، ربما يكون وراء هذه الزيارة الخطرة. نأخذ في الاعتبار مع هذا ما حدث من إعلان عن نجاح استهداف خليفة أسامة بن لادن وزعيم تنظيم «القاعدة» أيمن الظواهري، الذي أرادت واشنطن أن تقول من خلال إعلانها الاحتفالي به، إنها ما تزال هنا وإنها قادرة على القيام بعمليات نوعية وعلى عقاب أعدائها. لوهلة ربما تبدو الأزمة التايوانية بعيدة، لكنها في الحقيقة ليست كذلك، فحتى لو لم يؤد التوتر الحالي لانزلاق عسكري، فهو سيساهم بلا شك في إعاقة سلاسل التوريد العالمي بالنظر إلى الأهمية الاستراتيجية التي يحظى بها المضيق التايواني، الذي تمر من خلاله نسبة كثيرة من حركة النقل العالمية. هذا يحدث في وقت يتأثر فيه العالم بنتائج الحرب الأوكرانية التي كان من آثارها تعقيدات تسببت في موجة غلاء دولية، وارتفاع في أسعار المواد الغذائية، هذا بالإضافة إلى إشكاليات أخرى متعلقة بموارد الطاقة. التصعيد مع تايوان يثير زوبعة كبيرة في الخاصرة الآسيوية، ويحفز كثيراً من الدول التي تتوجس من دور الصين، والتي تتنازع معها حول المياه الإقليمية، وحول ملكية الجزر، كاليابان التي أعلنت أن بعض صواريخ المناورات الأخيرة وقعت داخل مساحتها الاقتصادية.
الولايات المتحدة ليست بعيدة عن المنطقة، سواء من خلال أسطولها البحري وقواعدها القريبة، أو من خلال الجزر التي تستأجرها، وهنا تبدو «حرب المساحات» هذه شديدة الطرافة، حيث تتحايل الصين بدورها لضم مناطق جديدة، من خلال تحويل أرخبيلات المنطقة إلى جزر عبر ربطها بشكل صناعي. يسمح هذا للصين بالاستفادة، ليس فقط من ثروات تلك الجزر، ولكن أيضاً من موقعها الاستراتيجي المهم، هذه السياسة تثير حفيظة دول مثل اليابان والفلبين وفيتنام، وأيضاً الولايات المتحدة الموجودة في المنطقة، لأن بعض دولها ترى في هذا الوجود حماية لحرية الملاحة ومرور السفن وتعتبر أن خروج الأمريكيين يهدد بدخول النزاع مرحلة الحرب المباشرة. يكفل هذا المنطق للأمريكيين تمدداً أكبر عسكرياً وتجارياً في المنطقة ويجعلها أحد أهم اللاعبين، إن لم تكن الأهم بما تملكه من قوة سياسية وعسكرية.
من آثار الأزمة الحالية أنها تقود لإجبار بعض الدول الأضعف على الاختيار بين معسكرين، وهو ما يظهر في حالة فيتنام التي تجد نفسها اليوم في منتصف الطريق ما بين محور الجار الصيني العملاق، الذي يضم أيضاً روسيا التي تغذي تمويلاتها العسكرية وتتمتع معها بعلاقات استراتيجية منذ أيام الاتحاد السوفييتي، ومحور الولايات المتحدة الذي يعد بشراكة اقتصادية أوسع وحماية عسكرية، بالنسبة لدول مثل فيتنام وغيرها من الاقتصادات النامية أو الناشئة ربما لا يكون الحياد موقفاً مقبولًا في المستقبل القريب.
القدس العربي