اعترافات من صميم دولة «الزومبي»!
لم تقدم استقالة وزير المالية العراقي، الدكتور علي علاوي، شيئا جديدا في توصيف النظام العراقي، لكنها كانت وثيقة اعتراف هامة تعري الدولة، لأنها تصدر من شخص كان فاعلا قبل العام 2003 في التنظير لهذا النظام، فقد كان من الموقعين على “إعلان شيعة العراق” الذي أعلن في بداية العام 2002، كما كان فاعلا سياسيا بارزا فيه، و وزيرا للتجارة في الحكومة التي شكلها الأمريكيون في أيلول/ سبتمبر 2003، ثم وزيرا للمالية في الحكومة الانتقالية التي تشكلت أيار/ مايو العام 2005.
منذ سنوات طويلة ونحن نكرر أن الفساد في العراق ليس فساد أفراد، بل هو فساد بنيوي، يحكم النظام السياسي، والدولة، وقلنا مرارا إن ثمة تواطؤا جماعيا شاملا على هذا الفساد، والأخطر أن هذا الفساد شارك فيه المجتمع نفسه ومارسه. وأن الطبقة السياسية بأكملها، أحزابا وأفرادا، حريصة على حمايته وتكريسه وإدامته! وأن الفساد وسوء الإدارة لم يكونا مطلقا من العوامل المحددة للسلوك التصويتي في الانتخابات البرلمانية، بل على العكس تماما، لان هذه الطبقة نجحت في صناعة جمهور زبائني حريص على انتخاب الأكثر فسادا، والأكثر جهلا، في سياق علاقة المقايضة التي ترعاها الدولة وسلطاتها ومؤسساتها، بنفسها!
وقلنا أيضا، إن الفاعلين السياسيين في العراق ينظرون إلى الدولة بوصفها موردا للاستثمارات المالية الشخصية، وما يستتبع ذلك من استثمارات مالية لواجهاتهم وتابعيهم، ولا أحد يعلم إلى أين تنتهي سلسلة الواجهات والتابعين هذه، وأن الموازنة العامة للدولة نفسها يتم “تصميمها” لتكون كل مادة وكل فقرة فيها، موضوعة من أجل خدمة الفاعلين السياسيين الذين حولوا وزارات الدولة ومؤسساته إلى إقطاعيات لهم؛ فهم المسؤولون عن ترشيح وزرائها، وهم من يديرونها فعليا لاستثمارها لمصلحتهم، وأن مجرد تحليل مواد هذه الموازنة العامة يكشف بسهولة هوية المستثمر المباشر الذي يقف وراء هذه المادة، أو تلك الفقرة!
يتحدث علي علاوي في وثيقته عن التدهور الذي أصاب الجهاز الإداري للدولة، عبر مقارنته بين الوضع الذي عرفه في وزارته الأولى في العام 2005، وما وجد عليه الوضع بعد خمسة عشر عاما حين توليه الوزارة ذاتها للمرة الثانية، يقول: “لقد كانت وزارة المالية التي كنت أرأسها شبحا مقارنة لما كانت عليه في السابق. وشغل المدراء مناصبهم لفترات قصيرة فقط، ووقع العديد منهم تحت تأثير الأحزاب السياسية، ولم يكن جميع المديرين العامين مناسبين أو مؤهلين للوظائف التي كانوا مسؤولين عنها. ولقد تم تقليص عدد كبار الموظفين التي كنت على دراية بهم في عام 2006 ، من خلال حالات التقاعد والطرد والاستقالات، وحتى القتل. وانخفضت المعايير إلى مستوى متدن للغاية. وكانت وزارة المالية مليئة بالأشخاص ذوي المؤهلات المشكوك فيها، وليس لديهم خبرات ذات مغزى أو مهارات، مع القليل من الفهم للممارسات الحديثة في الإدارة العامة أو الإدارة المالية. وهم غير الأكفاء والمتصلين بالسياسة بإزاحة الإداريين المهرة والفعالين”!
كانت وزارة المالية شبحا مقارنة لما كانت عليه في السابق. وشغل المدراء مناصبهم لفترات قصيرة فقط، ووقع العديد منهم تحت تأثير الأحزاب السياسية، ولم يكن جميع المديرين العامين مناسبين أو مؤهلين للوظائف التي كانوا مسؤولين عنها
وهذه الحقيقة لا يريد أحد الاعتراف بها، فقد تحولت الوظائف العليا في الدولة إلى “كارتلات” للفساد بعد تحكم الفاعلون السياسيون بهذه المناصب، كما تحولت الوظيفة العامة في العراق إلى أداة رئيسية لرشوة الجمهور من جهة، ولصناعة جمهور زبائني للأحزاب والفاعلين السياسيين من أجل ضمان إعادة انتخابهم، هكذا تضاعف عدد موظفي الدولة من مليون موظف في العام 2003، إلى ما يقرب من 4 ملايين موظف خلال عقد واحد من الزمن، كما وصل عدد المتقاعدين إلى أكثر من 2.5 مليون متقاعد، فضلا عن مئات الآلاف من المتعاقدين والعاملين بأجر يومي والمسجلين ضمن برنامج الحماية الاجتماعية الذين يحصلون على رواتب شهرية!
ويتحدث علاوي في وثيقته عن البنية الكليبتوقراطية التي تحكم دولة “الزومبي” العراقية حاليا، فقد “تم الاستيلاء على مفاصل واسعة من الدولة فعليا من قبل الأحزاب السياسية وجماعة المصالح الخاصة”. وأن شبكات سرية واسعة “من كبار المسؤولين ورجال الأعمال والسياسيين وموظفي الدولة الفاسدين تعمل في الظل للسيطرة على قطاعات كاملة من الاقتصاد، وتسحب مليارات الدولارات من الخزينة العامة. هذه الشبكات محمية من الأحزاب السياسية الكبرى، والحصانة البرلمانية، وتسليح القانون وحتى القوى الأجنبية … وأنها تحافظ على صمت المسؤولين الأمناء بسبب الخوف والتهديد بالقوة … لقد وصل هذا الاخطبوط الهائل من الفساد والخداع إلى كل قطاع من قطاعات اقتصاد الدولة ومؤسساتها ويجب تفكيكه بأي ثمن إذا كان مقدرا لهذا البلد أن يبقى على قيد الحياة…”!
الخطير في هذه الوثيقة أنها تعترف ضمنا باستحالة هكذا “تفكيك وتغيير”، عندما يتحدث علاوي عن أنه “من الصعب للغاية إجراء تغييرات وإصلاحات اقتصادية كبيرة على أساس مستمر ومستدام في ضوء سياق اقتصادنا السياسي. يجب ان اعترف أنني لم أتوقع التدهور المروع في معايير الحوكمة في بلدنا على مدى السنوات الخمس عشرة الماضية. كل شيء تقريبا يتآمر لإحباط التغيير الحقيقي وترسيخ استمرار الممارسات الفاسدة التي تدمر الأسس الأخلاقية والمادية للبلد”!
فالفساد في العراق كما تعترف الوثيقة يزدهر ” لأن النظام يتسامح معه ويسمح له بالازدهار والنمو. إن معالجة الفساد غير كافية من خلال زيادة الكلام عنه، وإنشاء المزيد من هيئات التحقيق وإدخال المزيد من الإجراءات العقابية”! وانه قد “تم تحريف النظام البرلماني الذي تم تقديمه في عام 2005 من أجل خدمة مجموعات من المصالح الخاصة وتقويض الدولة ومؤسساتها، ولقد سمح بالاستيلاء على الدولة من قبل مجموعة المصالح الضيقة”!
وأن الحكومة نفسها “لم تنجح في ضبط الفساد ثم الحد منه، الفساد وحش متعدد الرؤوس وقد حفر في السنوات العشرين الماضية جذورا عميقة في البلد، لا يمكن السيطرة عليه، فضلا عن اقتلاع جذوره إذا لم تكن هناك إرادة سياسية واجماع على القيام بذلك، إذا لا يزال الفساد مستشريا ومنهكا وواسع الانتشار”! وان كل دعوات الإصلاح جرى إعاقتها بسبب الإطار السياسي لهذا البلد. لقد تم تحريف النظام البرلماني الذي تم تقديمه في عام 2005 من أجل خدمة مجموعات من المصالح الخاصة وتقويض الدولة ومؤسساتها، ولقد سمح بالاستيلاء على الدولة من قبل مجموعة المصالح الضيقة”. وانه ” الحساب والعقاب لا يشمل الزعامات الكبيرة ويتم استغلال موارد الدولة بشكل غير فعال ومهدر أو يساء استخدامها أو تتم سرقتها، ولا أحد يحاسب على الكوارث التي حلت بهذا البلد”!
يخبرنا على علاوي في وثيقته أنه “يمكن أن تبقى دولة (الزومبي) لسنوات بل حتى لعقود قبل أن يتم دفنهم”! ولكنه ينسى هنا أن دول الزومبي لا تقتصر على الفاعلين السياسيين فقط، بل يمكنها أن تحول كل شيء إلى “زومبي” وليس فقط الدولة!
٭ كاتب عراقي - القدس العربي