انقلاب السيد الصدر وانقلابات سادة العالم
مرة أخرى تفشل الأسرة الدولية في دعوتها للعراقيين، المشاركة في الانتخابات البرلمانية، على الرغم من حجم الصعوبات والمشاكل الداخلية التي يمر بها العراق، من خلال صراع أحزاب وتيارات الدين السياسي في ما بينها على السلطة، وغياب أبسط مقومات المطالب التي يحملها الشارع، وكما نراها اليوم في العراق، حيث أصبح من المستحيل أن يغض المجتمع الدولي النظر عن الإشكالية السياسية والعقائدية، التي تحملها أحزاب السلطة، التي وضعت أُطر مصالحها المذهبية والفئوية فوق المصلحة المشتركة العليا.
فمن دون نظام سياسي وطني واضح الرؤية، سيعاني العراقيون الكثير من الانقسام ومن ثم التأثر بأطماع جيرانه وأجندات القوى العالمية المؤثرة، التي ترى في العراق المحور المهم لاستقرار المنطقة، وصمام الأمان لمصالحها الأمنية الإقليمية والعالمية.
تتجاذب القوى العظمى طرفي الخيط في العديد من بقاع العالم، عن طريق محاولات رسم النظام الجيوسياسي العالمي الجديد
ان إصرار المجتمع الدولي في تعامله مع العراق، وقبوله الاستمرار في دعم العملية السياسية الطائفية، على الرغم من فشلها الواضح، الذي بات لا يهدد بقاء النظام السياسي فحسب، بل البلد ككل، لا يمكن تفسيره إلا من باب التضليل، أو عدم القدرة على تصحيح المسار، والسعي للحفاظ على مصالح الدول المهيمنة على المشهد السياسي العراقي، وبما يتمتع به هذا البلد من موقع جيو استراتيجي، وعمق رمزي ثقافي وحضاري، ناهيك من حجم ثرواته الهائلة، التي تشكل رقما مهما في حسابات الهيمنة والنفوذ الإقليمية، التي تتطلبها خريطة الشرق الأوسط المقبلة. يبدو واضحا أن تطور حدة الصراع بين السيد مقتدى الصدر وخصومه المتحالفين مع إيران، الذي يدور في المنطقة الخضراء هذه الأيام، يأتي في الوقت الذي يشهد العديد من أرجاء المعمورة، المزيد من التطورات والتحولات على رقعة الشطرنج، حيث تتجاذب القوى العظمى طرفي الخيط في العديد من بقاع العالم، عن طريق محاولات رسم النظام الجيوسياسي العالمي الجديد، وبالتزامن مع الحرب الروسية على أوكرانيا، ومع انتهاء المراحل الأخيرة لملف إيران النووي، التي هي بمثابة اختبار لقدرة طهران على منع نزاع قد يضر بوجودها في العراق ودول المنطقة. ثمة من يرى في الأسباب والنتائج المتعلقة بتداعيات الحرب الروسية في أوكرانيا، والتغيرات الناتجة من تنامي المواقف المؤيدة لانضمام المزيد من الأمم إلى الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، والرد الروسي بدعم انفصال جمهوريتي لوغانسيك ودونيتسك، ستتبعه تغيرات أخرى في الرقعة التي يتقاسمها كبار هذا العالم، بعد أن أعادت إدارة بايدن التفكير في خطط الانتشار العسكري الأمريكي في العالم، خاصة في المناطق التي يمكن من خلالها احتواء كل من روسيا والصين. وقد تكون منطقة الشرق الأوسط هي الهدف الآتي، فالكبار لن يتركوا أو يخسروا بقعة من دون بديل أو مقايضة. وبتوالي ردود الأفعال الدولية والإقليمية تجاه ما سُمِّي بـ»الغزو الروسي لأوكرانيا»، وبتشابك أجندات الأطراف المتصارعة وتعقُّد المشهد الدولي أمام التداعيات التي ترتبت على الأزمة، يبدو من المهم البحث في مدى تأثير الأزمة الأوكرانية على بنية النظام الدولي بصورة عامة وعلى منطقة الشرق الأوسط بصورة خاصة.
من هنا أصبح من الواضح أهمية إيران والعراق ودول الخليج العربي، في خطوط اللعبة الأمريكية المتعلقة باحتواء روسيا والصين. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن التحولات والتطورات التي تحدث في بنية النظام العالمي ترتبط، سلبيّا وإيجابيّا، بكل الأنظمة الإقليمية المتأثرة، كالنظام الإقليمي في الشرق الأوسط. وبانتظار نهاية ملف إيران النووي سيكون بوسعنا قراءة الترتيب الجديد للمنطقة بصورة عامة والعراق بصورة خاصة. وبين سيناريو تطور الصراع الطائفي وانتقاله، لا سمح الله، إلى مربع خطير آخر، وفي غياب حكومة توافق بين الإطار التنسيقي والسيد مقتدى الصدر، يبقى السيناريو الأكثر احتمالاً ومنطقية، هو في امتثال العراق لسياق تطورات لعبة الشطرنج الدولية، ابتداء من طبيعة الدور الإيراني المقبل في العراق، ونهاية بالتطورات التي أفرزتها الحرب في أوكرانيا ومحاولات رسم النظام الجيوسياسي العالمي الجديد، الذي سيجعل من منطقة الشرق الأوسط، المصدر البديل للنفط والغاز الروسي، إذا ما أخذنا بعين الاهتمام حاجة الولايات المتحدة وأوروبا إلى النفط العراقي، بعد التغير في نسبة تصدير الطاقة الإنتاجية النفطية لدول الخليج العربي وبلوغها إلى الحد الأقصى. وهذا ما يسمح للعراق بتعويض النقص وإنتاج المزيد، ما قد يعني زيادة كبيرة في الإيرادات والدعم الدولي، لمن ينجح في قلب العملية السياسية المقبلة، سواء رفض حكام إيران القبول بحل مع المجتمع الدولي، أو حتى في حالة قبولهم بالمقترحات الأمريكية، في ما يخص الملف النووي وملحقاته، المتمثلة بوقف زعزعة النظام الإيراني للشرق الأوسط، وإنهاء تدخل فيلق القدس في العراق.
لا شك في أن توقيت الصراع على السلطة في العراق ووصوله لهذا المربع الخطير بين الأحزاب المشاركة في النظام العراقي، وبالتزامن مع بدء المراحل الأخيرة للملف النووي الهادفة للوصول إلى حلول تضمن قبول الإيرانيين باتفاق كلي يشمل الملف النووي، يخفي في ثناياه، الأسباب الحقيقية لاندفاع السيد مقتدى الصدر وسعيه إلى تغيير وقلب أسس العملية السياسية، التي تقاسمتها الولايات المتحدة الأمريكية وإيران، توافقا مع التغيرات الدولية والإقليمية المقبلة، بعد الانتهاء من الملف النووي الإيراني، من خلال محاولاته الأخيرة في حشد العدد الأكبر الممكن للشارع العراقي، وبالتالي فرض زعامته والظهور أمام الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها الأوروبيين بأنه الزعيم القادر على الانقلاب على النظام السياسي العراقي، الذي قارب على الانتهاء بقرب خروج إيران من اللعبة، على الرغم من تشابه القيم الثيوقراطية للتيار الصدري مع طبيعة النظام السياسي في قم وطهران. وهذا ما يدفعنا لقراءة ما بين السطور للمقال الذي نشرته صحيفة «نيويورك تايمز» المعنون «انقلاب الصدر الهادئ يؤشر إلى بداية النهاية للنظام السياسي المدعوم أمريكياً في العراق» والذي قد لا يعني في رأيي أن الإدارة الأمريكية سوف لا تدعم النظام المقبل في حال نجاح انقلاب الصدر على العملية السياسية الفاشلة، بل من النظام السياسي العراقي الحالي الذي تم دعمه وتقاسم عمليته السياسية مع إيران.
*كاتب عراقي
القدس العربي