ماكرون ومراد الصغير والتهابات الذاكرة

تم نشره السبت 27 آب / أغسطس 2022 01:06 صباحاً
ماكرون ومراد الصغير والتهابات الذاكرة
وسام سعادة

تقترب سفن القراصنة المبحرة من شمال إفريقيا من شواطئ إيسلندا تحت قيادة القبطان أو الريس مراد الصغير «الهولندي». كان ذلك صيف العام 1627. تتمكن في بضعة أسابيع من أسر مئات من الإيسلنديين لتعود بهم وتبعهم في سوق الرقيق بمدينة الجزائر.
كما في كل مرة حدث فيه مثل هذا الأمر كان جزء من الأسرى يجد طريقه الى العتق من خلال شرائه من قبل جهات أوروبية، ملكية أو دينية أو خاصة، لتحريره. وقسم ليس له من يسأل عنه، بعضه يكون مصيره أفضل من سواه. منهم من تحل به التهلكة سريعاً. ومنهم من يجد نفسه جارية أو زوجة لوجيه من الوجهاء. منهم من يلحق بصناعة حرفية أو بزراعهم، ومنهم الكثير من ينتهي أمره مجدّفاً في سفينة قادس (أي السفن المزودة بالمجاذيف).
لم تكن «الغارة التركية» كما يسميها الإيسلنديون الى اليوم، وهي عندهم لحظة مفصلية في تاريخ وذاكرة أمتهم، سوى واحدة من هذه الغارات المتواصلة لهؤلاء القراصنة. لكن الوجهة في تلك الغزوة أوغلت بعيداً. بيد أن مدينة كالجزائر كان يردها، وحدها، بين العامين 1580 و1680 بمعدل 25 ألف أسير غارات قرصنة على امتداد المتوسط والشواطئ الأوروبية من المحيط الأطلسي، وهو الرقم الذي يدافع عنه روبرت ديفيس في كتابه «عبيد مسيحيون، سادة مسلمون. الرقيق الأبيض في البحر المتوسط» الصادر عام 2003 (بالإنكليزية)، والذي يستحق أن تصطدم بعض تصوراتنا الرائجة به بعض الشيء. ليس بالضرورة كي تسلّم له بمطلق السردية التي يعرضها، إنما لإدراك أنه لا يمكن الإبقاء على هذا الجانب الأساسي من تاريخ العلاقة بين شمال أفريقيا وأوروبا الغربية مضاء عليه «فوق اللزوم» من جانب، ومعتماً عليه «فوق الاحتمال» من جانب آخر.
عند روبرت ديفيس أن استرقاق الأوروبيين المسيحيين «البيض» من قبل قراصنة شمال إفريقيا العثمانية، هو فصل أساسي لا يمكن إسقاطه من التاريخ الكوني لمسألة الرق، بل اهتم ديفيس بملاحظة التزامن بين ظاهرتين تاريخيتين، استرقاق البيض الأوروبيين الغربيين في مطالع العصور الحديثة، واسترقاق الأفارقة السود في اتجاه الأمريكيتين. مع فارق أن استرقاق البيض، بفعل غارات القراصنة «البرباريسك» كما شاعت تسميتهم عند الأوروبيين، وفي أحيان أخرى «الترك»، وفي أحيان أقل «العرب»، كانت تفوق الاسترقاق الأطلسي للأفارقة نحو أمريكا خلال القرن السادس عشر، وعادلته في القرن الذي يلي، قبل أن تتراجع ظاهرة الرق الأبيض بشمال أفريقيا في القرن الثامن عشر، هذا في مقابل صعود الإتجار بالأفارقة السود في اتجاه الزراعات الكولونيالية في القارة الجديدة.
مراد الصغير قائد الحملة على إيسلندا المنعزلة في أقاصي الشمال، كان هو نفسه مسيحياً هولندياً وقع في الأسر قبل هذه الغزوة بأقل من عشر سنوات، لكنه، تحول الى دين أسياده، وبات من «المرتدين» في نظر أبناء جلدته. ولم تكن هذه حاله لوحده بين القراصنة المسلمين. القراصنة من الجانب الآخر، والإغارة على مدن المسلمين في شمال إفريقيا لاسترقاقهم وبيعهم في أوروبا ازدهرت أيضاً في إسبانيا كما في توسكانا وبعد أكثر في مالطة. وكان الهدف الأساسي إرسال هؤلاء المسترقين للعمل في السفن القوادس كمجدّفين. لكن جرى الاستغناء عنهم تدريجياً لصالح المساجين الأوروبيين الذين كانوا يزدادون كلما كانت الدولة الحديثة آخذة في التبلور بين ممالك أوروبا، ثم لم تعد اليهم حاجة مع الانتقال الى السفن الشراعية المتطورة.

«استرقاق البيض» وبيعهم في الجزائر وتونس وطرابلس استمر لمرحلة أطول بكثير، ثم تراجع في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، وتجدد بعض الشيء على خلفية الفوضى التي عاشتها أوروبا إبان الحروب النابليونية، وتدفق السفن القادمة من الولايات المتحدة الأمريكية المستقلة حديثاً نحو المتوسط. وفي النهاية، فإن رفض أمريكا ما اعتبرته ابتزاز الخوات التي كانت تدفعها للقراصنة دفعها لما يعرف بالحرب الطرابلسية 1801 ـ 1805، حيث جندت مرتزقة عرباً ويونانيين وخلافه لضرب طرابلس الغرب ودرنة.
بالنسبة الى المؤرخ روبرت ديفيس ثمة اختلاف أساسي بين الرق الأطلسي، أي استعباد الأفارقة السود ونقلهم الى العالم الجديد، في إطار عبودية العمل التي شكلت حلقة أساسية من التراكم الرأسمالي التمهيدي، وبين الرق الأبيض في الشمال الأفريقي، الذي تداخلت فيه الأهداف المادية الصرف، مع البعد الثأري الديني، المحتقن من بعد نجاح عملية الاستعادة (الركونكوستا) الكاثوليكية في إيبيريا بسقوط غرناطة عام 1492، وانتقال الصراع الى شمال أفريقيا نفسها التي اعتزم الإسبانيون مدّ الاستعادة الكاثوليكية اليها، حتى تونس التي احتلوها عام 1573 مثلا قبل أن يستعيدها العثمانيون. أما وهران فقد استولى عليها الإسبان على مدى أطول بكثير، طيلة القرنين السادس والسابع ومعظم القرن الثامن عشر.
بالتالي، استرقاق البيض، من خلال النشاط القرصني نصف الجهادي، نصف التجاري، ارتبط بمناطق كانت في الوقت نفسه عرضة لخطر امتداد مصير الأندلس اليها، بل هو بالفعل امتد الى مناطق عديدة فيها، وفي المقابل كان يحدث بشكل متواصل أن يتمكن القراصنة «البرباريسك» من احتجاز سفن أوروبية أو الإغارة على المدن الأوروبية نفسها، بل هذه غرناطة التي انطفأت فيها حضارة الأندلس الاسلامية، أمكن فيها للقراصنة سوق 4000 من مسيحييها كعبيد يباعون في الجزائر المدينة عام 1566. من صقلية حتى ايرلندا، وفي حملة استثنائية، ايسلندا، شكل تاريخ القرصنة جزءاً أساسياً من تاريخ المواجهة الحضارية، والتفاعل بكل مندرجاته في الوقت عينه.
عندما احتل الفرنسيون مدينة الجزائر عام 1830 كانت ظاهرة استرقاق البيض تعيش لحظاتها الأخيرة. ولم يكن في المدينة أزيد من مئة وعشرين من العبيد الأوروبيين. مع هذا امتزجت بداية العملية الاستعمارية الفرنسية الطويلة الأمد برمزية تحرير هؤلاء.
لم يكتف الخطاب الاستعماري بمعزوفة الرسالة «التحضيرية» فقط، وإنما استند الى التاريخ القرصني السابق، ليعتبرها عملية انعكاس للآية، وعملية تحرر من خطر الاستعباد. وهنا بالتحديد تبرز أهمية الاقرار في الوقت نفسه بأن استرقاق البيض بالفعل لا يمكن اسقاطه من فصول التاريخ الكوني للعبودية، ولا يمكن التعامل مع عملية تسويغ الاستعمار به الا كسردية استعمارية بالكامل، لا سيما وأن الثأر هنا اتخذ طابعاً دينياً أيضاً. وهذه مفارقة فرنسية بامتياز في القرن التاسع عشر. احتلال مدينة الجزائر استتبع بتحويل المسجد العثماني الكبير فيها، أي جامع كتشاوره بالقرب من القصبة الى كاتدرائية القديس فيليب الكاثوليكية.
فرنسا نفسها التي كانت تتأرجح بين مملكة وجمهورية على مدى قرن، اختارت أن تعطي منذ البدء لاستعمارها للجزائر بعداً «صليبيا» بامتياز، بل انها حين حسمت أزمة هويتها بعض الشيء في زمن الجمهورية الثالثة، قامت الأخيرة على معادلة السياسة الأنتي اكليروسية في الداخل، وعلى تصدير البعثات التبشيرية وليس النفحات العلمانية الى الخارج، مع تحويل المناطق المستعمرة الى حقل تجارب للتعامل مع السكان الأصليين «الإنديجين» وثقافاتهم. ولأجل ذلك، لئن كان الاستعمار الفرنسي الطويل للجزائر لا يشطب صفحة لا بد للعرب والمسلمين من الإقرار بها، ودراستها، المتعلقة بزمن القراصنة وحملاتهم الاسترقاقية للأوروبيين البيض، فإن الاستعمار نفسه، وبخاصة للجزائر، لا يمكن للفرنسيين التصالح مع أنفسهم هم قبل الإقرار بأنه كان في أساسه كابوسا إجراميا متواصلا ضد أبناء الشمال الإفريقي. قد تكون استثارة الموضوع الآن من باب زيارة إيمانويل ماكرون للجزائر، مرتبطة بحسابات الطاقة والاصطفافات الدولية وما لا ينتهي من عناوين، لكن في العمق الثقافي للمسألة هناك تحديان، الأول يتمثل بأن يتعامل الفرنسيون بشكل أساسي مع مسألة استعمار الجزائر بجدية أكثر فيما يتعلق بالإقرار بالطابع الكارثي لما قام به الاستعمار فيها، وأن يجري في المقابل رفع التعتيم عن «اسهام» القراصنة السلبي والإيجابي «في تاريخنا»

القدس العربي



مواضيع ساخنة اخرى
الإفتاء: حكم شراء الأضحية عن طريق البطاقات الائتمانية الإفتاء: حكم شراء الأضحية عن طريق البطاقات الائتمانية
" الصحة " :  97 حالة “حصبة” سجلت منذ أيار لدى أشخاص لم يتلقوا المطعوم " الصحة " : 97 حالة “حصبة” سجلت منذ أيار لدى أشخاص لم يتلقوا المطعوم
الملكة في يوم اللاجىء العالمي : دعونا نتأمل في معاناة الأمهات والرضع الملكة في يوم اللاجىء العالمي : دعونا نتأمل في معاناة الأمهات والرضع
3341طن خضار وفواكه ترد للسوق المركزي الثلاثاء - اسعار 3341طن خضار وفواكه ترد للسوق المركزي الثلاثاء - اسعار
الدهامشة : الداخلية وفرت كل التسهيلات لقدوم العراقيين للأردن الدهامشة : الداخلية وفرت كل التسهيلات لقدوم العراقيين للأردن
العلاوين: التوسعة الرابعة ستمكن المصفاة من تكرير 120 ألف برميل نفط يوميا العلاوين: التوسعة الرابعة ستمكن المصفاة من تكرير 120 ألف برميل نفط يوميا
" الائتمان العسكري " : تمويل طلبات بقيمة 13 مليون دينار " الائتمان العسكري " : تمويل طلبات بقيمة 13 مليون دينار
العيسوي يفتتح وحدة غسيل كلى بالمركز الطبي العسكري بمأدبا العيسوي يفتتح وحدة غسيل كلى بالمركز الطبي العسكري بمأدبا
الصحة: مخزون استراتيجي للأمصال المضادة للدغات الأفاعي الصحة: مخزون استراتيجي للأمصال المضادة للدغات الأفاعي
بالاسماء : تنقلات واسعة في امانة عمان بالاسماء : تنقلات واسعة في امانة عمان
عضو في لجنة الاقتصاد النيابية: بطء شديد في تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي عضو في لجنة الاقتصاد النيابية: بطء شديد في تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي
إخلاء طفل من غزة لاستكمال علاجه بالأردن إخلاء طفل من غزة لاستكمال علاجه بالأردن
تسجيل 14 إصابة بالملاريا جميعها إصابات وافدة منذ بداية العام تسجيل 14 إصابة بالملاريا جميعها إصابات وافدة منذ بداية العام
ملك إسبانيا : الأردن هو حجر الرحى في الاستقرار الإقليمي ملك إسبانيا : الأردن هو حجر الرحى في الاستقرار الإقليمي
الملك : حل الدولتين أساسي لتحقيق السلام والازدهار في المنطقة الملك : حل الدولتين أساسي لتحقيق السلام والازدهار في المنطقة
الهواري يؤكد أهمية ضبط العدوى لتقليل مدة إقامة المرضى في المستشفيات الهواري يؤكد أهمية ضبط العدوى لتقليل مدة إقامة المرضى في المستشفيات