يعود بناء كنيس النبي إلياهو في الإسكندرية إلى سنة 1325، ولهذا فهو بين معابد اليهود الأقدم في المنطقة؛ فضلاً عن احتوائه على مكتبة زاخرة بالمخطوطات والمؤلفات النادرة. مفارقة أولى تكتنف الكنيس شاءت أن يكون بونابرت هو الذي أمر بقصفه خلال الحملة الفرنسية في مصر، وشاءت مفارقة ثانية أن تتولى أسرة محمد علي باشا إعادة ترميمه سنة 1850، وأما المفارقة الثالثة فتعود إلى الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي الذي وجّه بمزيد من أعمال الصيانة لهذا الكنيس وسواه الكثير من المعابد المصرية في مواقع مصرية مختلفة.
هذا تفصيل ليس أقلّ مغزى، في رصد علاقات نظام السيسي الراهنة مع دولة الاحتلال الإسرائيلي، من تفاصيل أكثر وضوحاً وإثارة للاهتمام؛ عناوينها تدور حول التعاون العسكري والأمني في المناطق الشمالية الشرقية من شبه جزيرة سيناء لمواجهة تنظيم «أنصار بيت المقدس»، وكانت صحيفة «نيويورك تايمز» الأمريكية قد نقلت أنّ طائرات مقاتلة إسرائيلية نفذت أكثر من 100 ضربة جوية بين أعوام 2015 و2018. أو في ميدان الغاز الطبيعي، سواء عبر أنبوب مارّ بسيناء إلى منشآت إسالة الغاز في مصر، أو لتصدير كميات كبيرة منه إلى أوروبا، وكانت زيارة وزير الطاقة المصري إلى دولة الاحتلال في شباط (فبراير) 2021 مناسبة لتوثيق هذا التعاون الواسع. ولن يطول الوقت حتى رأى النور «منتدى غاز شرق المتوسط» الذي جمع مصر ودولة الاحتلال الإسرائيلي مع إيطاليا واليونان وقبرص والأردن، وأُضيفت السلطة الوطنية الفلسطينية من باب رفع العتب.
قطاع العلاقة السياسية/ الأمنية الذي اتخذ تسمية «الوساطة» المصرية بين الاحتلال الإسرائيلي وحركة «حماس» كان، في المحتوى الفعلي الذي لا تخطئه بصيرة، صيغة تعاون مشترك لاحتواء الحركة التي تحكم قطاع غزّة منذ العام 2007، من جهة أولى؛ وإبقاء تعبيرات «المقاومة»، ما يُراد بها من حقّ أو باطل، تحت ضوابط مصرية وإسرائيلية محكمة، متبادلَة المصالح، من جهة ثانية؛ واستغلال الخلافات الفلسطينية – الفلسطينية عموماً، وبين «فتح» و«حماس» خصوصاً، من جهة ثالثة. ولقد توفرت أيضاً جهات أخرى رابعة وخامسة وسادسة… ليست، هنا أيضاً، أقلّ مغزى وإنْ كانت أصداؤها أقلّ إثارة للضجيج والعجيج.
وعلى خلفيات مثل هذه، فإنّ ما يُشاع اليوم من خصام بين نظام السيسي ودولة الاحتلال يبدو أقرب إلى «حرد» مؤقت يمزج العتاب بالحرج جراء الإحجام الإسرائيلي عن الوفاء بتعهدات سارعت مصر إلى إعلانها كجزء من صفقة وقف إطلاق النار الأخيرة في غزّة؛ سواء ما اتصل بالأسيرين بسام السعدي وخليل العواودة، أو ما أدرجه وزير الدفاع الإسرائيلي بيني غانتس تحت بند «الشدّ والجذب بين الأصدقاء»، أو حتى تلكؤ الاحتلال عن موافاة القاهرة بتفاصيل ما تكشّف عن قبر جماعي لجنود مصريين قُتلوا قرب دير اللطرون في ظاهر مدينة القدس خلال حرب 1967.
هذه، وسواها من ملفات مشابهة، أقرب إلى زبد يذهب جفاء في محيط عباب من العلاقات الوطيدة بين نظام السيسي ودولة الاحتلال، وليس أقرب الأدلة أنّ تبديد الضباب الذي اكتنف الأجواء مؤخراً لم يتطلب أكثر من زيارة يتيمة قام بها مدير استخبارات الـ«شين بيت» الإسرائيلية للاجتماع مع زميله المصري عباس كامل؛ وإذا كان إعلام السيسي قد عتّم على أنباء هذه الزيارة، لأسباب لا تخفى، فإنّ الصحافة الإسرائيلية تولّت تسليط الأضواء عليها… لأسباب لا تخفى، هنا أيضاً !
يبقى العنصر الأهمّ في مجمل معادلات هذه الحال أنّ استطلاع رأي يعود إلى سنة 2020، أجراه «المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات» في الدوحة، أشار إلى معارضة 85% من المصريين الاعتراف بدولة الاحتلال؛ وأكثر من 75% يعتبرون أنّ قضية فلسطين تخصّ العرب أجمعين وليس الفلسطينيين وحدهم. وهذا، أغلب الظنّ، ما يمكث في الأرض.