مطلوب مهاجرين لكوكب المريخ

لوقت ليس بالبعيد، كانت أفلام وروايات الخيال العلمي تحظي بنجاح ملحوظ غالبا بدافع الفضول، وكذلك لأنها تزجي خيال المتلقي حين تدفعه ليجول في دروب غير مألوفة في عوالم جديدة. وكلما زاد الإعجاب بقدرة المؤلِّف على تصوير الحياة على سطح كواكب أخرى، سواء في المجرَّة نفسها أو في مجموعات شمسية أخرى، كان المتلقِّي يشط بخياله بعيدا متصوِّرا وجود عوالم حقيقية لم تسبر بعد هناك. فبات هناك تساؤل شائع يكتنزه المتلقِّون في ثنايا الذاكرة منذ الطفولة، وصولا لمرحلة الشباب والهِرَم، ألا وهو: «هل من الممكن استحداث وسيلة للسفر لكواكب أخرى، وتنشيط حركة التنقُّل والترحال بين كوكب الأرض والكواكب الأخرى؟» وبسبب الإيمان العميق بأن ذاك التساؤل ضرب من ضروب الخيال، كانوا يتركون الإجابة عنه للمبدعين؛ فيبتكرون في كتاباتهم وأفلامهم ضروبا مختلفة من الأسفار وأشكالا متعددة للأجناس.
لم يجرؤ أي عالم أو شخص عادي أن يجزم في إمكانية تحقيق ذاك الأمر، واتخاذ خطوات جادة للتنفيذ، إلى أن جاء العالم الأمريكي إيلون ماسك Elon Musk مالك ورئيس مجلس إدارة شركة «سبيس إكس» Space X، وكذلك أغنى أغنياء العالم، الذي أعلن عام 2016 عزمه إقامة مستعمرة بشرية قوامها سكان الأرض على سطح المريخ. وكانت أولى الخطوات الجادة التي اتخذها، تسيير رحلات للفضاء على نطاق ضيِّق. وحاليا، يعكف على تطوير صواريخ مؤهلة لنقل الأفراد والبضائع حول النظام الشمسي؛ لتحقيق حلمه في إنشاء مستعمرة مكتفية ذاتيا على الكوكب الأحمر. ويؤكد إيلون ماسك أن حلمه ليس أكذوبة أو خيالا، وأنه يُصرّ على تحقيقه. ومثله الأعلى إعلان المستكشف إرنست شاكلتونErnest Shackleton في عام 1900، اعتزامه للقيام برحلة لاستكشاف القارة القطبية الجنوبية، مؤكدا أنها «رحلة محفوفة بالمخاطر» وملابسات رحلة شاكلتون شبيهة برحلات ماسك المزمعة، وبسيل الانتقادات التي تمطره، فحلم كلاهما محط تشكيك إلى أن يثبت العكس. وإن كان شاكلتون قد برهن على إمكانية تحويل حلمه لأمر واقع، فإن إيلون ماسك يسير على النهج نفسه. وهدف ماسك كما يقول على وسائل الإعلام ليس بناء مجد شخصي. وتبعا لما أدلى به في مؤتمر افتراضي في 31 أغسطس/آب 2020 ، أكَّد ماسك أن مشروعه سوف يصير بمثابة قبلة حياة لسكان الأرض؛ وشدد قائلا: «في حال حدوث أزمة كارثية على الأرض، سواء أكانت من صنع البشر أو الطبيعة، سوف يتحوَّل المشروع لحماية وتأمين حياة البشرية جمعاء» وذلك بإيجاد مأوى آخر للبشر يستظلون به ويحتمون على أرضه، «وإن كانت المسألة برمَّتها لا تخلو من الإثارة والمغامرة».

وبعيدا عن إمكانية التنفيذ، مخطط إيلون ماسك لاستعمار كوكب المريخ، يثير العديد من التساؤلات على الصُّعد التكنولوجية والسياسية والأخلاقية، ناهيك من تحديات التمويل التي لم يجرؤ ماسك على تحديد ولو نسبة تقريبية لها. ويشكك الخبراء في إمكانية تطويره لتكنولوجيا تساعد على نقل عناصر بشرية للمريخ، خاصة أنه من الصعب تطوير صاروخ دورة الوقود فيه تحتمل مجرد الوصول لكوكب المريخ، والأصعب استحداث صاروخ ذي هيكل يحتمل الضغط الهائل خلال الرحلة.
أما على الصعيد السياسي، فالمشروع يعكس عزم إيلون ماسك إنشاء عالم موازٍ يتحوَّل فيه المهيمن والمالك، فينافس بذلك كبار زعماء الأرض، بل يفوقهم سُلطة. أضف إلى ذلك، فإن النظر للمشروع من زاوية أخلاقية يدينه تماما؛ لأنه يؤكد على إعادة إحياء ماسك لمبدأ المستعمرات والفكر الاستعماري، الذي يعمد إلى استغلال واستعباد البشر الأحرار، ما يشكك في نواياه العلمية، ويؤكد أن دوافعه مادية أنانية. علاوة على كل هذا وذاك، فإن نسبة المخاطرة شديدة، واحتمال هلاك المشاركين في الرحلات التجريبية شبه مؤكدة. وردّ ماسك على تلك المخاوف بتأكيده أن المشروع محفوف بمخاطر شتَّى. والوصول لسطح الكوكب الأحمر لا يعني تحقيق الحلم، بل الحياة عليه. وحتى مع توافد الأفواج، فلسوف تكون في انتظارهم حياة شاقة تفيض بالكد والجهد من أجل الإعمار. واختتم كلمته بالتشديد على أن المشروع برمته «لا يتناسب وذوي القلوب الضعيفة؛ لأنه قد يتحول لوسيلة يلاقي فيها المرء حتفه، فالمشروع غاية في الصعوبة. بيد أن في حال النجاح، لسوف يكلل جميع المشتركين بأسمى درجات التميُّز».
وعلى الرغم من الانتقادات اللاذعة الموجهة لإيلون ماسك، لكنه يؤكد أنه بحلول عام 2026 سوف يهبط آدميين على سطح المريخ. ويعمل على تنظيم رحلات تجريبية لرواد فضاء لوجهات متعددة ذهابا وإيابا في المركبة نفسها، ومركباته المستهدفة الصواريخ «فالكون 9» Falcon 9 وكبسولات «كرو دراجون» Crew Dragon. وتمهيدا للرحلة المنشودة، تعكف شركة «سبيس إكس» Space X على تطوير مركبة فضائية صاروخية عملاقة لنقل أشخاص إلى القمر والمريخ، بحيث يكون هيكلها مصنوعا من الفولاذ المقاوم للصدأ، وخزَّان الوقود فيها يكفي لإتمام رحلتي الذهاب والعودة، دون توقُّف؛ للتزوُّد بالوقود.
ومستعمرة الفضاء التي ينشدها ماسك هي عالم مثالي، مكتفٍ ذاتيا بالموارد التي تؤهِّل قيام نشاط زراعي وصناعي، وحسبما يروِّجه المتشككون، فإن المناخ السيئ من أكبر العوائق التي تحول دون تحقيق ذاك الحلم. ووصف الخبراء كوكب المريخ بأنه قطعة من «الجحيم» فتَّاك المناخ. لو تمكُّن البشر من الهبوط على سطح المريخ، سوف يتحتم عليهم الاختيار بين الموت بعد غليان الدماء لدرجة تجعله يفور مثل الصودا في علبة معدنية مغلقة، فتتدهور حالة النسيج العضلي، ما يفضي إلى موت الإنسان محتوم. أما الخيار الآخر، فهو التجمُّد حتى الموت. وتبعا لما يروِّجه ماسك من حلول، فإنه يعتقد أن ضرب الغلاف المحيط بكوكب المريخ – المتسبب في إحداث احتباس حراري – بصواريخ نووية متتالية تقشع ذاك الغلاف. والأمل المنشود سوف يتحوَّل لواقع ملموس بعد إرسال أول مليون فرد إلى سطح المريخ بحلول عام 2050. ولتحقيق الهدف يتم بناء (1000) مركبة فضاء على مدار عشر سنوات.
وقد تذهب هباء جميع مخططات ماسك لإرساء قواعد حياة موازية على ظهر كواكب جديدة – التي عليها تنشأ أجيال يتكيَّف تركيبها البيولوجي مع الظروف البيئية المتباينة لكل كوكب – إذا استمر سكان العالم في التناقص على نحو مريع، كما ورد في الدراسات المنشورة عام 2020 من قبل «معهد القياسات الصحية والتقييم Institute for Health Metrics and Evaluation التي تؤكِّد تراجع عدد السكَّان عالميَّا؛ بسبب انخفاض معدلات الإنجاب والخصوبة، وجميعها مؤشرات باتت ملحوظة على الصعيد الدولي، دون استثناء الصين ـ كالعادة- حيث توقف عدد سكانها عن النمو في هذا العام، ومن المتوقع تراجعه عاما تلو الآخر. ومن ثمَّ، يفكر إيلون ماسك في خطة بديلة يستعيض بها عن العنصر البشري في حال لم يتمكَّن من استحداث مستعمرة قوام سكانها مليار نسمة يعملون في مجالات التصنيع الحيوية التي يعزم ماسك على نقلها من كوكب الأرض إلى كوكب المريخ والقمر، وربما إلى كواكب أخرى.
وفي حين يبدو مشروع ماسك للعامة مثيرا للسخرية، لكن إيمان المستثمرين به وكذلك فريق العلماء المؤَّيدين للفكرة يعكس جديَّة الأمر، خاصة بعد اتخاذ شركة سبيس إكس خطوات حثيثة لتحقيق ذاك الهدف بداية من عام 2016 وحتى الآن تجري الأمور بشكل متواصل. المعضلة الكبرى هي وضع سيناريو واقعي لمستقبل الأرض وسكانها في وجود عالم مواز شديد التقدُّم يهاجر له القادرون، ويُسْتَعْبَد فيه المطحونون. وهناك تخوُّف من تحوُّل الأرض لمكب نفايات للكواكب الأخرى بعد أن تصبح موئلا للمهمشين والأقل حظا. ثقة ماسك والمؤيدين له في خطة استعمار المريخ، تجعل الرعب يدب في أوصال الجميع. ولو كان ماسك يفكِّر من الآن في خطة بديلة في حال عدم توافر عدد كافٍ من البشر لنقلهم للمريخ والقمر، فهل يفكر العلماء أيضا في خطة بديلة لحماية كوكب الأرض وسكَّانه من طموح سكَّان الكواكب الأخرى؟

القدس العربي