ضمير مستتر تقديره فرنسا

تم نشره السبت 17 أيلول / سبتمبر 2022 01:25 صباحاً
ضمير مستتر تقديره فرنسا
بيير لوي ريمون

عندما أتذكر دروس العربية التي تلقيتها لغة وممارسة، وأستحضر موقف التربويين الحداثيين الذين يلومون المدرسة التقليدية لكونها تعتمد على الحفظ والوصف على حساب التفكيك والتفسير، تداخلني رغبة في تذكير هؤلاء بأن أية عدة منهجية لا يمكن اكتسابها، من دون حد أدنى (في الواقع أقصى) من الوصف والحفظ.
من هنا، تكتسب عبارة «ستفهم لاحقا يا بني» معنى كاملا – أولا لأنها تتوج مبدأ تربويا آخر وهو أن بواكير الاكتساب تتم بالمعاينة قبل الفهم، ثانيا لأن عملية التخزين التي توفرها ذاكرة مدربة تجعل من الفهم اللاحق غير الفوري، أمرا غير مقلق أبدا، بل مريحا.
لقد مضى وقت غير قليل قبل تمكني من ظاهرة الضمير المستتر وتقديراته، لكن الظاهرة، وإن كانت نحوية، دائما حفزتني باتجاه تأملات فلسفية، جعلتني أرغب في سبر أغوار هذا الضمير المتخفي وراء «أفعال مبنية» والذي «لا يظهر في الكلام إنما يفهم من سياق الجملة». ولعل إعجابي بمفهومي «البناء» و»التستر» النحويين راجع إلى نزعة تفكيكية – نقدية مبكرة، جعلتني أنقل بعض «مفاهيم الطفولة» إلى المجال الجيوسياسي، لأنني وجدت فيها مواءمة – كما يقول القدامى – وتناسبا مع سرية كواليس المفاوضات. يبدو أن موقع إيران المفاوض في ملف النووي تحول، وربما تعزز، بموقع الوسيط المحتمل لدى روسيا في إمدادات الطاقة، مع مقابل قوي لإيران يرتبط بالاتفاق النووي هذا صحيح، لكن يساعد في تفعيله مبدأ «تقديم الخدمة» أيضا، الذي يتمثل في إتاحته الفرصة لاحقا بتصدير نفطه. أجل.. إذا كانت روسيا قد أعلنت عن وقف تشغيل أنبوب نوردستريم 1، وإذا كان الممثل السامي للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية جوزيب بوريل حازما وثابتا في موقفه من قدرة دول الاتحاد على تأمين 90% من احتياطات الغاز لديها، ها نحن سمعنا منذ خمسة أيام أصواتا تتحدث عن «تفويض أوروبي لوساطة إيرانية بهدف ربط مسارات مفوضة»، فيما سعى البعض إلى تذليل العبارة، بطريقة تذكرني بشرح محققي أعمال الشعر والأدب الذين تحدثوا عن «استئناف تصدير مواد عن طريق دولة ثالثة». لم يكن عسيرا حينها ربط الموضوع، بتلك «الرسالة من رئيس دولة غربية كبيرة إلى الجانب الروسي، في ما يتعلق بالحرب الجارية في أوكرانيا»، التي حملها وزير خارجية إيران حسين عبد اللهيان إلى نظيره الروسي، وفق بيان لوكالة إيرنا الإيرانية الرسمية. وإذا كانت المصادر تحدثت بدءا عن «وساطة لإنهاء الحرب بين روسيا وأوكرانيا» من دون تقديم مزيد من التوضيحات، سارع المتحدث باسم لجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية في مجلس الأمن الإسلامي بعدها، إلى تحديد هوية «الرئيس» و»الدولة الكبيرة» وتصدت مصادر أخرى للغوص أكثر في خطوة إيمانويل ماكرون، فهو الذي يقف وراء طلب الوساطة.

هنا بدا جليا أن فرنسا تواصل استخدام ورقتها الدبلوماسية المعهودة، القائمة على «عدم إذلال أحد» وبناء جسور الثقة، فما فعلته تحديدا لدعم إيران كطرف مفوض في اتفاقية فيينا سنة 2015 ـ وهو دعم ما زال مستمراً رغم تحفظات فرنسية على عدم سماح إيران لمفتشي وكالة الطاقة الذرية بزيارة مواقع يقال إنها شهدت عمليات تخصيب مشبوهة – تفعله الآن بإسناد دور الوسيط لإيران لحسن علمها بأن «شتاء من دون تدفئة روسية» لن يستقيم منطقيا، رغم خطاب المجموعة الأوروبية الرسمي عن توافر الاحتياطيات اللازمة. يكرس هذا السيناريو مبدأ دبلوماسية «الحل الوسط» الذي باتت تعتمده فرنسا وتطبقه هنا على ضوء خلفية طويلة من العلاقات الفرنسية – الإيرانية – البعض سيقول بحلوها ومرها – وتسعى لتجنيد طاقاتها بهدف نقل هذه العلاقات طويلة الأمد إلى رافعة دبلوماسية تجعلها قادرة على سلك طريق موازية. وتكتسب الطريق الموازية هنا جدارة خاصة بتعويلها على انشقاق أوروبي تدريجي، خاصة في حالة استمرار النزاع الأوكراني أمدا يطول، وهو انشقاق بدأ فعلا، فليست هنغاريا وحدها، المعروفة بمشاركة روسيا نزعتها القومية، من تنخرط في مجموعة المستمرين في الاستفادة من إمدادات الطاقة الروسية، فنجد حتى الدول المتربعة على قمة منفذي العقوبات، بغض النظر عن الخطوة الفرنسية محل هذه السطور، تشرع – على نمط ألمانيا – في تطوير استراتيجية مناورة عن طريق إمدادات متواصلة في شرق البلد. فهل ستنجح «الطريق الثالثة الفرنسية؟».
المسألة شائكة أيضا من زاوية وجود «طرف ثالث» آخر من شأنه أن يتدخل على الخط أيضاً، إنه الطرف الأمريكي، فالرواية الروسية التي تشبّه زيلينسكي بالدمية – وإن أمكن اعتبارها من باب الإفراط والمزايدة ونسبها إلى الخطاب البروباغندي المعهود – لا تخلو من حقيقة يمكن صياغتها بطريقة أخرى، وهي أن مصير أوكرانيا مرتبط بدعم أمريكي مشروط، ومن بين هذه الشروط الاستمرار في فرض العقوبات على روسيا طبعا، فيما بدأت أصوات تعلو أوروبيا منددة بترفع أمريكي يخدمه بعد جغرافي وشبه استقلالية طاقوية. «طلب وساطة» فعل ماض ذو انعكاسات مباشرة على الحاضر – مثل الـ«بلوبرفكت» الإنكليزي، مبني على الفتح ولا ندري تحديدا إن كان الفتح سيكون نصرا. وضمير مستتر تقديره إيمانويل ماكرون، إنذارا بأن الخطاب الموازي للخطاب الرسمي يتواصل وبقوة…

القدس العربي 



مواضيع ساخنة اخرى
الإفتاء: حكم شراء الأضحية عن طريق البطاقات الائتمانية الإفتاء: حكم شراء الأضحية عن طريق البطاقات الائتمانية
" الصحة " :  97 حالة “حصبة” سجلت منذ أيار لدى أشخاص لم يتلقوا المطعوم " الصحة " : 97 حالة “حصبة” سجلت منذ أيار لدى أشخاص لم يتلقوا المطعوم
الملكة في يوم اللاجىء العالمي : دعونا نتأمل في معاناة الأمهات والرضع الملكة في يوم اللاجىء العالمي : دعونا نتأمل في معاناة الأمهات والرضع
3341طن خضار وفواكه ترد للسوق المركزي الثلاثاء - اسعار 3341طن خضار وفواكه ترد للسوق المركزي الثلاثاء - اسعار
الدهامشة : الداخلية وفرت كل التسهيلات لقدوم العراقيين للأردن الدهامشة : الداخلية وفرت كل التسهيلات لقدوم العراقيين للأردن
العلاوين: التوسعة الرابعة ستمكن المصفاة من تكرير 120 ألف برميل نفط يوميا العلاوين: التوسعة الرابعة ستمكن المصفاة من تكرير 120 ألف برميل نفط يوميا
" الائتمان العسكري " : تمويل طلبات بقيمة 13 مليون دينار " الائتمان العسكري " : تمويل طلبات بقيمة 13 مليون دينار
العيسوي يفتتح وحدة غسيل كلى بالمركز الطبي العسكري بمأدبا العيسوي يفتتح وحدة غسيل كلى بالمركز الطبي العسكري بمأدبا
الصحة: مخزون استراتيجي للأمصال المضادة للدغات الأفاعي الصحة: مخزون استراتيجي للأمصال المضادة للدغات الأفاعي
بالاسماء : تنقلات واسعة في امانة عمان بالاسماء : تنقلات واسعة في امانة عمان
عضو في لجنة الاقتصاد النيابية: بطء شديد في تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي عضو في لجنة الاقتصاد النيابية: بطء شديد في تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي
إخلاء طفل من غزة لاستكمال علاجه بالأردن إخلاء طفل من غزة لاستكمال علاجه بالأردن
تسجيل 14 إصابة بالملاريا جميعها إصابات وافدة منذ بداية العام تسجيل 14 إصابة بالملاريا جميعها إصابات وافدة منذ بداية العام
ملك إسبانيا : الأردن هو حجر الرحى في الاستقرار الإقليمي ملك إسبانيا : الأردن هو حجر الرحى في الاستقرار الإقليمي
الملك : حل الدولتين أساسي لتحقيق السلام والازدهار في المنطقة الملك : حل الدولتين أساسي لتحقيق السلام والازدهار في المنطقة
الهواري يؤكد أهمية ضبط العدوى لتقليل مدة إقامة المرضى في المستشفيات الهواري يؤكد أهمية ضبط العدوى لتقليل مدة إقامة المرضى في المستشفيات