إلى أين يسير اقتصاد العالم؟
خلال الأسابيع القليلة الماضية دخلت أسواق العالم في حالة فوضى اقتصادية شاملة، حيث هوى الجنيه الإسترليني واليورو الأوروبي إلى مستويات متدنية غير مسبوقة منذ عقود، وسجَّلت بورصات العالم – بما فيها الأمريكية ـ أداء بائساً أقل ما يوصف به أنه «غريب وغير مألوف»، ووسط هذه «الفوضى الاقتصادية» دخل العالم العربي في أزمة تكاليف معيشة وارتفاع أسعار، ربما لم يشهد لها أي مثيل في تاريخه.
خلال الأسبوع الماضي فقدت شركة «فيديكس» العالمية المعروفة للشحن ربع قيمتها تقريباً خلال يوم واحد، حيث تبخرت ربع القيمة السوقية للشركة، لتكون بذلك قد سجلت أسوأ يوم في تاريخها على الإطلاق، أما شركة «ميتا» التي تملك «فيسبوك» و»واتسآب» فقد فقدت خلال عام واحد فقط أكثر من 61% من قيمتها السوقية، وخلال الأسبوع الماضي وحده تبخرت 14% من قيمة الشركة السوقية.
في العالم العربي يبدو الأمر أكثر سوءاً، والوضع الاقتصادي أكثر تأزماً وتدهوراً، وتواجه العديد من العملات العربية مخاطر كبيرة، كما أن أزمة ارتفاع الأسعار وزيادة تكاليف المعيشة، أكبر من أي مكان آخر، وهو ما يعني اتساع رقعة الفقر والجوع، وسوء الخدمات وتردي الواقع المعيشي. ما يحدث في العالم هو أن الولايات المتحدة تقوم بتصدير أزمتها الاقتصادية إلى الخارج، وذلك عبر سياسة نقدية جديدة يتبناها «الاحتياطي الفيدرالي» (البنك المركزي في أمريكا)، وهذه السياسة تقوم على «التشديد الكمي» وهي عكس سياسة «التيسير الكمي» التي كانت واشنطن تتبناها خلال السنوات العشر الماضية. وتقوم سياسة «التشديد» على رفع أسعار الفائدة، وهو ما يؤدي إلى سحب السيولة النقدية من الأسواق من أجل السيطرة على التضخم وارتفاع الأسعار. ما تفعله الولايات المتحدة يؤدي إلى خفض الأسعار في الداخل فعلاً، وهذا ما يُفسر هبوط أسعار النفط والمعادن والقمح، وأغلب السلع المقومة بالدولار الأمريكي، لكنَّ هذا في المقابل يؤدي إلى تعميق الأزمات الاقتصادية في الخارج، إذ تهوي أسعار العملات المحلية في دول العالم، كما شاهدنا بالنسبة للجنيه الإسترليني واليورو الأوروبي والليرة التركية والجنيه المصري، الأمر الذي يعني بالضرورة التهاب الأسعار في هذه الدول وزيادة رقعة الفقر فيها. أما في دولنا العربية فتبدو المشكلة الاقتصادية أعمق بكثير، إذ في مصر لا تتوقف الأزمة عند انهيار سعر صرف العملة المحلية، وإنما تتوسع نحو أزمة ديون غير مسبوقة، حيث ارتفع الدين الخارجي إلى 158 مليار دولار خلال الربع الأول من 2022، بينما وصل الدين الداخلي إلى نحو ضعف هذا الرقم متجاوزاً 313 مليار دولار أمريكي، ومع ذلك فالمشكلة لا تتوقف عند هذا الحد، وإنما رفع أسعار الفائدة الأمريكية سوف يزيد من تكلفة هذه القروض، وسوف يزيد من العبء على الموازنة العامة، ويزيد من العجز في الميزان التجاري، يُضاف إلى ذلك أن احتياطي النقد الأجنبي يتآكل أيضاً، ولم يعد يكفي لحاجة البلاد من العملة الصعبة إلا لنحو ثلاثة شهور ونصف الشهر، وهي عوامل تدفع كلها إلى الاعتقاد بأننا قد نكون أمام أزمة ديون سيادية خلال الشهور المقبلة. الوضع ليس أفضل حالاً بكثير في كل من الأردن وتونس ولبنان، إذ ارتفعت الديون إلى مستويات قياسية، وتواجه العملات المحلية ضغوطاً كبيرة، وهو ما يُفسر سبب الاتفاق الأردني الأمريكي الذي بموجبه سيحصل الأردن على مساعدات أمريكية سنوية بقيمة 1.45 مليار دولار، ولمدة سبع سنوات، أي أنها في الحقيقة «حزمة إنقاذ اقتصادي» تبلغ قيمتها عشرة مليارات دولار.. طبعاً تأتي هذه الحزمة الأمريكية بعد أن ارتفع الدين العام في الأردن إلى 41 مليار دولار، وهو أعلى مستوى له على الإطلاق، وبات يُشكل حالياً أكثر من 88% من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد.
ثمة وضع اقتصادي بائس على مستوى العالم، وما يحدث هو أن الولايات المتحدة تستخدم هيمنة الدولار الأمريكي على الأسواق كسلاح ضد الآخرين، وهي بفضل هذه الميزة تقوم بتصدير أزماتها إلى الخارج عبر السياسات النقدية التي تتبناها، وقد فعلتها أكثر من مرة في السابق، سواء للخروج من أزمة الرهون العقارية في أواخر ام 2008، أو خلال أزمة «كورونا»، وحالياً خلال أزمة التضخم وكابوس ارتفاع الأسعار.
القدس العربي