العرب: المفعول به الكبير الذي ينتظر الخلاص
ليس الوقت محيراً بالنسبة لنا في المنطقة العربية فحسب، بل يشاركنا العالم الأوسع في ذلك، فليس ثمة مبالغة في القول بأن تطورات الحرب الأوكرانية تجاوزت حد الإزعاج، والأسف الإنساني المتضامِن من حجم الضحايا والدمار والتهجير وتبادل الاتهامات، إلى مرحلة الخوف على مصير ملايين البشر والسلالة والكوكب من سياسة حافة الهاوية، التي شرع بوتين في نهجها بتلويحه بالخيار النووي إزاء ما بات مؤكداً أنه انتكاسةٌ في موقف قواته. عرباً، نشارك سائر البشر في الترقب وحبس الأنفاس (وربما نزيد عليهم في التنظير منبت الصلة بالوقائع) لكن وضعنا، كما هو المألوف، مختلفٌ نوعاً ما.
بعينٍ تراقب منشغلةً الوضع العالمي، لا تراوح الأخرى أوضاعنا الداخلية، خاصةٍ الوضع في مصر. الشاهد أن هناك قطاعاً معتبراً في بلداننا يتمنى ويعول على نصرٍ روسيٍ على الغرب، انتقاماً لثارات تاريخية ومستجدة، أو أملاً في تغير كفة المعادلة مع إسرائيل، وربما طمعاً في تحسن الأوضاع الداخلية، لتظل الحقيقة الضخمة التي تحتل صدارة المشهد، وتقف في عارضة الطريق تنظر لنا بتحدٍ وصفاقة: أن الواقع العربي بائسٌ تماماً.. وعدا دول الخليج ذات الرخاء الاقتصادي النسبي، نظراً لثروات الطاقة، فإن البؤس عميم، يشمل شتى المناحي، سياسية واقتصادية واجتماعية، خاصةً دول القلب التي كانت تشكل الثقل التقليدي، مصر وسوريا والعراق.
حيثما نظرنا لا نجد سوى قمعٍ تتفاوت شدته، ومصادرةٍ للحريات بدرجاتٍ مختلفة، واستبدادٍ سياسي؛ بعد عقودٍ من الاستقلال الرسمي، لم تزل إشكالية المشاركة السياسية والاستعصاء في تداول السلطة حاضرة، بل لقد غرقنا في المزيد من أنهار الدم عقب موسم الثورات المهزومة. هذه المنطقة لا يظللها سوى الاستبداد، إما صريحاً دامياً أو متوارياً، تعيش أزمةً اجتماعيةً وثقافيةً عميقة، فشلت مشاريع حداثتها بدرجاتٍ متفاوتة، أنظمتها متضخمةٌ متغولة تدوس شعوباً مهزومةً مرهقةً تماماً، وحين حاول بعضها الفكاك نُكل به، ودفع الثمن غالياً، وخسر بعض بقايا مكاسبه وحقوقه المكتسبة، أو المنتزعة عبر قرونٍ من الصراع والحراك.
مصر على سبيل المثال، رمم النظام نفسه بسلطة ديكتاتورٍ بليدٍ وجاهل إلا أنه الأبطش والأوغل دمويةً من كل سابقيه، فسحق معارضيه، ولم يزل يعذبهم بالتزامٍ يجمع بين اللذة والتشفي، والتطير ربما من خروج بعضهم، ولم يكتف بمصادرة الحياة السياسية وأعمار معارضيه، بل صادر الاقتصاد بعسكرته وقفز إلى مشاريع قليلة الجدوى، ومشتريات سلاحٍ لا فائدة منها، ولن تلبث أن تصدأ في صناديقها، ولا مبرر مقنع لها سوى الربح السريع عبر الرشى والعمولات، والآن على خلفية المفاوضات مع صندوق النقد الدولي، وتوالي الاقتراض وما يوازيه من تأزم أوضاع العامة المعيشية، لم يبق لدى الغالبية العظمى سوى انتظار المصير، وما ستأتي به الأقدار، متوقعين الأسوأ والمزيد من الضيق والفقر، وآملين في الخلاص والفرج منحةً إلهية لا يعلمون من أين ولا كيف ستأتي. وما ينطبق على مصر ينطبق على غيرها، فتونس التي كان يُضرب المثل بها، وما بدا إفلاتاً من مصير الانقلابات والثورة المضادة، ها هي تتخبط ونرى جدلاً فيها في إعادة تعريف الديمقراطية والدستور، إلخ. أما سوريا فحدث ولا حرج على المثال الأنصع لهزيمة الثورات وسحق الشعوب وخلط الأوراق، ما أدى في النهاية إلى التدخل الخارجي وبقاء النظام بمباركةٍ محلية وعالمية، إما صريحةً، أو مستترة بعد أن سلط وأطلق آلته العسكرية على شعبه، فقتل مئات الآلاف بوحشية، وشرّد وهجّر ما يزيد على ثلث سكان البلد.
لا تملك سوى التعجب والتحسر على هذه الشعوب، حين تراقب الدور التركي في الأزمة الأوكرانية، والمفاوضات مع إيران، وكيف يؤخذ هذا البلد بجدية من الغرب والعالم، رغم سنوات الحصار وامتداد نفوذه ودوره الحاسم وكلمته المسموعة، بل الأولى والأخيرة في دول الجوار وحتى اليمن؛ وبالطبع إسرائيل، اللاعب الإقليمي الأهم ربما الذي تخطى أو رفض أن يكون مجرد مخلب قط أو قلعة أمامية لرأس المال الغربي متشبثا باستقلالية القرار والاعتماد على الذات، تلك المفاهيم التي صارت ذكرى بعيدة لا تثير سوى رثاء الذات الممتزج بالسخرية في بلداننا.
في أروقة مجلس الأمن وقاعاته ودوائر صنع القرار، هؤلاء يجيئون وأولئك يذهبون، يتناقشون ويفاصلون، ونحن لم نراوح موقع المتفرج الذي يتسقط الأخبار، الخائف على مصيره من أزمات الغذاء والكساد، وأثر ذلك على العملة المحلية، وكما انتظرنا ولم نزل «المخلص» فها نحن ننتظر الفرج وانصلاح الحال من الله في صورة معجزةٍ أو صدفةٍ أو نتيجةٍ عرضية لصراعات الكبار.
لقد سحقتنا هذه الأنظمة تماماً، برجالها «الأقوياء» الدمويين، باستبدادهم ورعونتهم ومغامراتهم الفاشلة، بتبذيرهم وتفريطهم وتبديدهم، حصرونا لعقود في خانة «المفعول به»، وحين حاولنا تخطي ذلك إلى حيز المبادرة والفعل والفاعل، أعادونا بحربٍ شنوها علينا بكل ما لديهم من أسلحةٍ اشتروها من دمائنا، بحجة تحرير أراضينا المستلبة، حتى صرنا كتلاً ضخمةً سخيفة، لا تنتج شيئاً ذا بال، لا حول لها ولا قوة، ولا يخشى منها إلا من ينفلتون من عجينتها في قوارب المهاجرين غير الشرعيين، أو ليقوموا بعملياتٍ إرهابية تعبر عن الهزيمة والفشل والإهانة. للأسف فإن هناك مفاجأة غير سارة تنتظر شعوبنا: إن المقبل، كما يحدسون، أسوأ. ولن ينتج عن هذا الصراع العالمي مكاسب عارضة ذات بال، وأن أحداً لن يتطوع لتحريرنا أو لرد حقوقنا، وما الضغط الأمريكي لتحسين ملف حقوق الإنسان سوى محاولةٍ لتجميل الشكل، وتخفيف الضغط والاحتقان الداخليين، منعاً للانفجار؛ كما أن روسيا لو انتصرت، والصين ما برزت، لن يكونا أفضل من أمريكا على الإطلاق، بل أكثر توحشاً واستباحةً للعنف في مواجهة المعارضة الداخلية. المفاجأة، أو الفصل المقبل في حكاية شعوبنا لو تُرك لهذه الأنظمة، أسوأ من دون أدنى شك، فالخلاص لن يأتي لا من أي دولةٍ كبرى ولا معجزةً من السماء.
ستستمر الأوضاع إما كما هي في أحسن الأوضاع، أو ستسوء وهو الأرجح، وساعتها لن يكون أمام شعوبنا سوى خيارين: إما الصدام والصراع والثورة، أو التوحش.
القدس العربي