هنري كيسنجر: قلق من اختلال التوازن
لا يتكلم هذا الرجل إلا إذا استشعر أن خطراً ما يهدد الهيمنة الأمريكية، وعلى الرغم من بلوغه 99 سنة من العمر؛ العمر الذي ينظر إلى كلام صاحبه بأنه مجرد تخاريف وهذيان شيخوخة، إلا أن هنري كيسنجر يمثل الاستثناء في هذه القاعدة، فكلامه الذي لا يكاد يُسمع من أقرب مستمع إليه، قادر على الوصول إلى معظم دول العالم، إذ ينظر إليه على أنه مؤثر، ينبغي التعامل معه بجدية، فهو لا ينطق “عن الهوى”.
ربما تدل كلمة «عن الهوى» هنا، على حكمة الرجل، وتمرسه في السياسة، وخبرته في الدبلوماسية، أو ربما تدل، على نحو آخر، وهذا هو الأهم، على أنه يتكلم نيابة عن غيره، وما هو، في الحقيقة، سوى ناقلٍ لأفكار «العقل الاستراتيجي» لواشنطن، إلى من يريد التعرف على التوجه العام للإدارة الأمريكية في هذه اللحظة الحساسة.
شبكة العلاقات
يمكن تفسير حجم هذا التأثير، وقوة هذا النفوذ، وطغيان هذا الحضور، بشبكة علاقاته التي نسجها، سواء وهو في السلطة (كوزير للشؤون الخارجية أو كمستشار للأمن القومي) أو خارجها، ولعل هذا ما أشار إليه المؤرخ نيل فيرغسن عندما كتب قائلا: «كرّس كيسنجر منذ البداية جزءاً كبيراً من طاقته لبناء شبكة تمتد أفقياً في جميع الاتجاهات إلى أبعد من اهتمامات مسؤولي الحكومة الفيدرالية: إلى الصحافة، بل صناعة الترفيه داخل الولايات المتحدة، ولعل الأهم إلى حكومات أجنبية رئيسية عبر مجموعة (قنوات خلفية) متنوعة»، ويرجع سبب ذلك، حسبه، إلى «مقدرته الفطرية على الدخول في علاقات وجدانية، وكذلك فكرية، مع أشد محاوريه تحفظاً، وهي مهارة شحذها قبل فترة طويلة من تعيين نيكسون»، بالتالي، فإن ما يكتبه في مقالات، أو يدلي به من تصريحاتٍ إلى وكالات الأنباء أو إلى القنوات الفضائية، ليست مجرد نصائح فقط، القصد منها الإدارة الأمريكية، وإن كانت تتضمن ذلك، بشكل أو بآخر، بل هو يريد إيصال رسائل إلى من يهمه الأمر، ولعل المقصود الأساسي من وراء تلك الرسائل اليوم، الصين وروسيا، اللتان أفصحتا عن نيتهما مزاحمة أمريكا، بالعمل معاً على تغيير النظام أحادي القطبية، الذي كرسته واشنطن منذ نهاية الحرب الباردة، ومن يتابع التصريحات، التي تأتي من بكين، أو من موسكو، يصل إلى هذه النتيجة.
ربما يريد كيسنجر في هذه الأيام استرجاع ذكريات تلك الفترة من الحرب الباردة، فترة العنفوان والشباب، وفترة القوة الأمريكية، لاسيما وأن العالم يعيش على وقع أزمات متشابهة؛ فهو يترقب اندلاع حروب كبرى، ويتوجس من أن يؤدي التهور إلى استعمال السلاح النووي؛ كل هذا ينبئ بحدوث تغيير ما؛ في تلك الفترة استطاع بمكره ودهائه اختراق الوحدة، القائمة بين السوفييت والصينيين، ما أدى إلى نأي الصين قليلا عن طريق السوفييت، وتغيرت سياسة واشنطن تجاه بكين، من النبذ إلى الاحتواء، ومن المقاطعة إلى التواصل.
تحالف جديد
اليوم، هناك تحالف جديد بين الصين وروسيا، تترجمه المواقف المتقاربة في عدة قضايا؛ إذ ساندت الصين روسيا في غزوها لأوكرانيا، في المقابل، تدعم روسيا بكين في رؤيتها للأزمة التايوانية، معتبرةً جزيرة تايوان جزءاً من الصين الواحدة، كما تظهران معارضة واضحة للسياسة الأمريكية، في سعيها الحثيث إلى تثبيت النظام أحادي القطبية. في حديثه الأخير مع الباحثة لورا سيكور في «وول ستريت جورنال»، الذي اتسم بالصراحة والوضوح حيناً، وبالتحفظ والغموض أحياناً، تناول كيسنجر الوضع العالمي الراهن، منتقداً ومحذراً ومستشرفاً كذلك؛ فهو لا يستبعد أن تندلع حربٌ بين أمريكا، والصين وروسيا، فكل المؤشرات تدل على ذلك، وربما يعود ذلك حسب رأيه، إلى أخطاء الولايات المتحدة في معالجة بعض القضايا الحساسة؛ خطأٌ في إثارة بوتين لما اقترب حلف الناتو من حدود بلاده، مانحاً أوكرانيا فرصة الانضمام إليه، ما أدى، والحال هذه، إلى نشوبِ حربٍ لا داعي لها؛ بالموازاة مع ذلك، لعبٌ بالنار في مشاكسة التنين، في ما يخص تايوان.
في تشريح التوازن
في خضم هذه الأوضاع، التي يغلب عليها التنافس بين جبابرة العالم، ويسودها الخوف من أن يؤدي ذلك إلى وقوع كارثة نووية، يرى كيسنجر أنه ينبغي تفعيل الدبلوماسية، بوصفها «عملية موازنة بين القوى العظمى، التي تلقي بظلالها على احتمالية وقوع كارثة نووية» لمجابهة التحديات الموجودة، ومع أن السلاح النووي، كانت الغاية من امتلاكه، فضلا عن الردع، «الحفاظ على توازن القوى المعادية»، غير أن التوازن الذي يحققه، في كثير من الأحيان، هشٌ وغير مستقر، لكنه يبقى، في نظر كيسنجر، «ضرورة أساسية للعلاقات الدولية”. ويشير في حديثه، الذي أشرنا إليه من قبل، إلى أن «التوازن له مكونان»: الأول يتمثل في «توازن القوى»؛ في هذه الحالة، إما أن تقبل القوى المتنافسة بـ«شرعية القيم المتعارضة» في الأوقات الصعبة، فيتعايش بعضها مع بعض، بتغليب لغة الدبلوماسية والحكمة على لغة القوة والتهور، وإما أن يسعى القوي إلى فرض قيمه بالقوة، فتكون النتيجة النهائية «اختلال التوازن»، الذي قد تكون له عواقب وخيمة على الاستقرار والسلم، يقول كيسنجر: «أعتقد أن التوازن (في هذه الحالة) غير ممكن، لذا، فإن المستوى الواحد هو نوع من التوازن المطلق”.
أما بالنسبة للمكون الآخر، فهو «توازن السلوك»؛ حيث يحدده بالقول: «إن هناك قيودا على ممارسة قدراتك وقوتك، في ما يتعلق بما هو مطلوب للتوازن العام»، مستدركاً، في الوقت نفسه، بأن التوازن لا يتحقق الهدف منه إلا إذا اتصف القادة بـ«مهارة فنية»، تساعدهم على اتخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب.
ومع أن التوازن ضروري ومهم، بحسب كيسنجر، لمواجهة التحديات المفروضة، بحيث ينير طُرقاً للتفاهم والتقارب، ويفتح دُروباً للسلام والتعايش، «لكنه لا يمكن أن يكون قيمة في حد ذاته»، لهذا، فقد يكون النقاش حول التوازن، في غالب الأحيان، غير مبرر، عندما يكون التعايش مع الخصم مستحيلا أخلاقياً، كحالة هتلر مثلا. بناءً على ما سبق، هل التوازن يخدم الولايات المتحدة الآن؟
حسب التحليل المستفيض، الذي قدمه كيسنجر، فإن التوازن اليوم هو الترياق الوحيد لإنقاذ العالم من كارثة نووية، ومن حرب مدمرة، ومهلكة، وعلى واشنطن أن تدرك أن فرض رُؤاها على الآخرين، كما في فترة انهيار الاتحاد السوفييتي، غير ممكن حالياً، في ظل صعود قوى عالمية جديدة، تنافسها على القمة، ومن ثم، فإن المطلوب منها أن تعدل من سلوكها، وتقبل بوجود حدود لممارسة سلطان قوتها. يبقى هناك استثناء وحيد، ينبغي الإشارة إليه هنا، نستشفه من حديث كيسنجر، يتعلق بنظرة الغرب إلى بوتين، فإذا ما تغيرت النظرة إليه، خاصة أن الإعلام الغربي يستحضر صورة هتلر في نعت الرئيس الروسي، ففي هذه الحالة سيصير التعامل معه بمنطق التوازن «غير مجدٍ» أخلاقياً.
الحرب المقبلة
يتوجس كيسنجر كثيراً من الحرب، التي باتت تقترب أكثر فأكثر، والأدهى أن تتطور الأمور في أوكرانيا وتايوان إلى حربٍ عالميةٍ، إذ يُحمل واشنطن مسؤولية ما آلت إليه الأوضاع العالمية، بسبب سوء إدارتها لهذه الملفات؛ فرجال الدولة اليوم، وفقاً لكيسنجر، على عكس أسلافهم، يستجيبون «لمشاعر اللحظة»، في غياب أي قراءة لمآلات أفعالهم في المستقبل: «نحن على شفا حرب مع روسيا والصين بشأن قضايا أنشأناها جزئيا، من دون أدنى فكرة عن الكيفية، التي ستنتهي بها، أو ما الذي من المفترض أن يؤدي إليه»؛ ويستبعد أن يكون لأمريكا اليوم القدرة على إدارة هذه الأزمات، مثلما كان عليه الحال في فترة نيكسون، مقترحاً، في الوقت نفسه، أن غاية ما يمكن فعله هو «عدم تسريع التوترات، وخلق خيارات»، على أن نجاح ذلك مرتبط أساساً بأن يكون هناك هدف. في هذا السياق، ينصح كيسنجر الإدارة الأمريكية بالمحافظة على الوضع القائم في جزيرة تايوان، فسياسة الحزبين، على حد تعبيره، «أنتجت وسمحت بتقدم تايواني ديمقراطي مستقل»، كما أنها «حافظت على السلام بين الصين والولايات المتحدة مدة 15 سنة»، وعليه، تبعاً لذلك، يجب على البلدين أن يبتعدا عن كل ما من شأنه أن يقود إلى “أزمة”.
على صعيد آخر، يعود إلى الحديث عن الحرب الأوكرانية، حيث يتوقف عند رأيه، الذي أثاره من قبل، بأن واشنطن وحلف الناتو ساهما في إشعال فتيل الحرب في أوكرانيا، معتقداً بأنه كان خطأً من الناتو إرسال «إشارة إلى أوكرانيا بأنها قد تنضم في النهاية إلى الحلف»، لأن فيها إثارة لمخاوف بوتين المكبوتة، ويرى أنه ينبغي التعاطي مع هذه الأزمة بحذر شديد، نظراً لخصوصية البلد، فهي «عبارة عن مجموعة من الأرضي، التي كانت تابعة لروسيا ذات يوم، التي يعتبرها الروس أراضيهم»، وفي ما يخص السبيل الذي يتحقق به الاستقرار بين روسيا والغرب، يقول: «كنت أؤيد الاستقلال الكامل لأوكرانيا، لكنني اعتقدت أن دورها الأفضل شيئاً مثل فنلندا”. بيد أن كيسنجر يحاول من خلال هذا الحوار إعادة النظر في هذه الاستراتيجية، معتبراً إياها جزءاً من الماضي، بعد أن قام بوتين بغزو أوكرانيا، «مع ذلك؛ فإن ما وقع قد وقع، ولا يمكن التراجع عنه، فبعد الطريقة التي تصرفت بها روسيا في أوكرانيا»، لم يبق من حل، وفق رأيه، سوى التعامل مع أوكرانيا «كعضو في الناتو»، بطريقة أو بأخرى، بالإضافة إلى أنه يتوقع أن تتم تسوية هذه الأزمة عن طريق الحفاظ على المكاسب، التي حققتها روسيا منذ «توغلها الأول في سنة 2014، عندما استولت على شبه جزيرة القرم، وأجزاء من منطقة دونباس”.
ختاماً؛ يعبر كيسنجر من خلال هذا الحوار عن مخاوفه وهواجسه؛ فهو في الحقيقة، لا تعنيه الحروب، التي تخدم الهيمنة الأمريكية، ولا تهمه الأزمات، طالما لا تؤثر في النظام العالمي القائم؛ والواقع أن مصدر قلقه هو أن يؤدي اختلال التوازن في العالم إلى أفول العصر الأمريكي، ومن ثم، انتقال القيادة إلى الصين وروسيا، لذلك فهو يدعو صناع القرار إلى تفعيل الدبلوماسية، القائمة على «توازن القوى»، لأجل استقرار الوضع العالمي على ما هو عليه إلى حين.
القدس العربي