هنا لندن: مرثية لتراث بلا ورثة حافظين!
في السادسة وسبع دقائق من صباح أحد أيام مايو 2003 بث مراسل البي بي سي لشؤون الدفاع أندرو غيلغان تقريرا، في إطار برنامج «توداي» الإذاعي اليومي، قال فيه إن لديه أدلة على أن حكومة توني بلير بالغت وتزيّدت و«زيّنت ملفّ العراق» حتى تتذرع بأكذوبة أسلحة الدمار لتبرير موقفها (المسبق أصلا) بأتباع أمريكا في قرار الغزو والاحتلال. وقد تبين بعد زمن أن هذا صحيح، وأن الحكومة لم تقف عند حد المبالغة بل إنها تعمدت التلفيق! لكن اللورد هاتون المكلف بالتحقيق في مقتل العالم ديفيد كلي، الذي انتحر بسبب زج الحكومة باسمه في هذا الملف الزائف، شكّك في صحة أدلة غيلغان. لهذا استقال الصحافي. ولأن مدير البي بي سي غريغ دايك كان نزيها، فقد أعلن استقالته هو أيضا في 29 يناير 2004.
يومها اتصلت بي، في مكتب الجزيرة في لندن، منتجة نشرة أخبار القناة التلفزيونية الرابعة وقالت إنهم يودون استضافة صحافيين أجانب لإبداء الرأي في ما حدث للبي بي سي. لما ذهبت وجدت أن الضيف الآخر هو مراسل القناة الإيطالية «راي أونو». في البدء تحاور المذيع اللامع جون سنو أمامنا مع مستشار بلير الأزلي بيتر ماندلسون، الملقب بـ«أمير الظلام» لإتقانه الكيد في الخفاء، ووزيرة الثقافة والإعلام تسّي دجاول التي سلمت علينا بكل لطف، بينما أشاح ماندلسون بوجهه لما سمع اسم الجزيرة. ابتدرني جون سنو بالسؤال: هل بقي للبي بي سي مصداقية في العالم العربي بعد هذه الفضيحة؟ فقلت له: أود أولا أن أنبه إلى أن من اتخذ الموقف الأخلاقي المشرّف لم يكن رجل السياسة بل رجل الإعلام. فقد كان الأولى والأجدر أن يبادر السيد توني بلير دون سواه إلى الاستقالة. لكن شرف هذا الموقف الأخلاقي كان من نصيب السيد غريغ دايك. فهل تضر هذه الاستقالة، مثلما سألت، بمصداقية البي بي سي لدى الرأي العام العربي؟ لا أظن ذلك إطلاقا. ولا أتوقع أن كثيرا من العرب سيسمعون بهذه الاستقالة، ناهيك عن الاهتمام بها. ذلك أن القنوات البريطانية الداخلية لا تهم جمهورنا، وكل ما تعنيه البي بي سي لدى معظم العرب إنما هو راديو «هنا لندن» فحسب (كان ذلك قبل أعوام من إطلاق تلفزيون بي بي سي عربي).
قلت ذلك رغم علمي آنذاك أن إذاعة «هنا لندن» لم تعد، في 2004، إلا ظلا باهتا موحشا لذاتها الأصليّة المشرقة. لهذا لم أحزن لما علمت الأسبوع الماضي بقرار إقفالها. لا لأن الخبر غير محزن. بل لأن حزني عليها سابق. فقد قرّ الرأي عندي باكرا، كما يعلم بعض زملائي القدامى، أن أمر الإذاعة العريقة بدأ يؤول إلى الأفول منذ أواخر 1992، أي منذ أن غادرها سام يانغر، آخر المدراء البريطانيين القديرين والحريصين على حفظ الإرث الكلاسيكي لهذه الإذاعة الرائدة وعلى انتهاج سياسة توظيف صارمة لم يكن لينجح في اختباراتها الكتابية والشفاهية العسيرة إلا أفضل المترجمين والمذيعين والصحافيين. لكن كل ذلك انتهى (بتزامن عجيب مع نهاية الحرب الباردة وبداية عصر العولمة) فأصبحت «هنا لندن» مرتعا لكثير من المبتدئين والمتوسطين، ولم يبق فيها من الجيّدين إلا الآحاد.
وبما أنه قد أتيح لي أن أكتب مرارا عن «هنا لندن» وعن تاريخها منذ إطلاقها في 12 يناير 1938، فحسبي اليوم أن أتطرق إلى مقوم واحد من مقومات شخصيتها المميزة. إنه متانة اللغة. لقد كانت «هنا لندن» مدرسة اضطلعت، بزعامة العلامة حسن الكرمي، بدور مشهود في نشر العربية المعاصرة. وكان فيها مذيعون أفذاذ أولهم الفلسطيني عيسى خليل صباغ الذي غادر أواخر الأربعينيات ليؤسس «صوت أمريكا» وكان مترجما لكيسنجر في رحلاته المكوكية ونشر كتاب الأمثال الشهير «كما قالت العرب». والثاني زمنا، لأنه بدأ في الستينيات، هو الفلسطيني ماجد سرحان الذي أعدّه شخصيا ظاهرة بيانيّة و«غولا إذاعيا» بلا نظير. وكان ثمة جمهرة من ذوي الحنجرة الذهبية نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر: الليبي محمد مصطفى رمضان الذي اغتاله عملاء القذافي في قلب لندن، والأردني علي أسعد وزوجته الفلسطينية سلوى أبو السعود المواظبة على مطالعة الكتب بين النشرات، والجزائري صالح الصيد، والفلسطيني حسام شبلاق، والمصري رشاد رمضان، والسورية عبلة خماش، والفلسطينية مديحة المدفعي، والسعودية هدى الرشيد التي لا تضاهى عذوبة نبر ورصانة تلاوة.
أما ما لا ينتبه إليه الكثيرون فهو أن البي بي سي قد أسست أفضل مدرسة عربية في الترجمة الإخبارية دقة وإحكاما وحسن بيان. ولم تزدني المعرفة بسواها من المؤسسات الإعلامية إلا يقينا بأن «هنا لندن» هي الأفضل والأجمل في عالم البيان الإعلامي العصري، وبأن المترجمين المرموقين الأستاذين المصري نبيل إسكندر والمقدسي عارف أحمرو هما الأحفظ لهذا الذخر الأصيل الذي يحزنني أن لم يعد يستطيع اليوم إرثه وحفظه أحد.
القدس العربي