انتفاضة فلسطينية جديدة
الانتفاضات الفلسطينية السابقة كانت كل واحدة منها تختلف عن الأخرى، سواء من حيث الشكل أو الأدوات أو حتى الأسباب والملابسات التي رافقتها، وكانت كل انتفاضة تأتي بما يتناسب مع الظروف التي فرضها الاحتلال، وهو ما أثبت يقيناً أن إخضاع شعب ما بالقوة لاحتلال أجنبي أمر غير ممكن.
لكل انتفاضة رئيسية في فلسطين حكاية مختلفة وشكل مختلف، ففي عام 1936 نفذ الفلسطينيون أطول إضراب عام، وكان الشكل الغالب للانتفاضة في ذلك العام هو «العصيان المدني»، وهو ما أحدث تحولاً ملموساً في ذلك الحين وكانت له آثار في الشارع الفلسطيني وفي الاحتلال والهجرة الخارجية.
ومن المعروف أيضاً أن الانتفاضة الكبرى في عام 1987 كانت «انتفاضة حجر»، أي أنها احتجاج غير سلمي، لكنه لا يتميز بالعنف الشديد، فكان في مقدمة صفوفها الأطفال، وكانوا يستخدمون الحجارة في مواجهة الرصاص الحي والدبابة، وقد أدخلت تلك المواجهة الكبرى التي استمرت لسنوات كلمة «انتفاضة» الى قواميس العالم حتى أصبحت الكلمة معروفة في كل لغات الكون وأضيفت الى قاموس «أكسفورد» العالمي كمفردة جديدة يعرف الناس معناها من أولئك الأطفال. ومن المعلوم بالضرورة أن تلك الانتفاضة خلقت أزمة للإسرائيليين دفعتهم دفعاً إلى مؤتمر مدريد سنة 1990، ومن ثم إلى مفاوضات تسوية انتهت باتفاق أوسلو في أواخر عام 1993. في عام 2000 اندلعت «انتفاضة الأقصى» التي كان سببها الرئيس زيارة اليميني المتطرف أرييل شارون إلى المسجد الأقصى، واقتحامه الحرم القدسي الشريف، وواقع الحال أن تلك كانت شرارتها، لكن سببها الرئيس هو أن إسرائيل نكثت الوعد وانتهكت اتفاق أوسلو، الذي كان مرحلياً ومؤقتاً وكان من المفترض أن ينتهي بعد خمس سنوات باتفاق للحل النهائي. لكن أهم ما كان يميز «انتفاضة الأقصى» هي أنها استخدمت أسلوب «حرب العصابات» وشارك فيها رجال من قوات الأمن الفلسطينية، التي كان يراهن الإسرائيليون على أنهم سيردعون أي احتجاج، فإذا بهم يشاركون فيه ويدعمونه ويستخدمون الأسلحة الخفيفة التي بأيديهم في تلك المواجهة. كانت مواجهة غير مسبوقة في التاريخ الفلسطيني، وكانت انتفاضة نادرة بكل المقاييس والمعايير.
ما يحدث في الضفة الغربية هذه الأيام هو انتفاضة جديدة مكتملة الأركان، لكنها تختلف عن سابقاتها وتتماشى مع الظروف الراهنة، وهي ظروف تختلف عن تلك التي كانت في المراحل السابقة. والأحداث التي رآها العالم في مخيم شعفاط خلال الأيام الماضية، وقبلها أحداث مخيم جنين، وأحداث نابلس، وغير ذلك من أحداث متفرقة ومترامية جغرافياً وزمنياً، كلها تدل على أن ما يحدث هو انتفاضة فلسطينية جديدة، ولكنها ذات معالم مختلفة ومواصفات وأدوات تختلف عن السابق، حتى الإسرائيليون بدؤوا يدركون أنهم يواجهون انتفاضة فلسطينية جديدة حالياً في الضفة الغربية، ويبدون قلقهم من توسع الأحداث، حيث قال قائد الأركان الأسبق لجيش الاحتلال غادي آيزنكوت إن التدهور الأمني الحالي في الضفة هو «الأخطر منذ انتهاء انتفاضة الأقصى عام 2005». وأضاف آيزنكوت في مقابلة صحافية قبل أيام أن «الوضع الأمني الحالي أخطر أيضاً من انتفاضة القدس عام 2015، حيث تطورت العمليات الفلسطينية إلى عمليات إطلاق نار في غالبيتها بدلاً من السكاكين والدهس». الضفة الغربية تسير إلى انتفاضة جديدة بكل تأكيد، ولكنها بشكل مختلف وأساليب وأدوات جديدة، وواقع الحال أن حالة الجمود السياسي والسياسات الإسرائيلية التي تقوم على التهام الأرض وتكثيف الاستيطان لا يُمكن أن تنتهي إلى غير ذلك، كما أن الاعتداءات اليومية المتكررة على المسجد الأقصى وفرض تقسيمه زمانياً ومكانياً تزيد من حالة الاحتقان والغليان، وما يضمن الأمن والاستقرار هو التوصل الى اتفاق سلام منطقي ومرضي ومقنع وليس استخدام القوة والبطش والقمع لإسكات الشارع. ما يحدث في الضفة الغربية هو أن جيلاً فلسطينياً جديداً يولد ويكبر تحت هذا الاحتلال، ومحاولات إخضاعه بالقوة والبطش والقتل والاعتقال لا يبدو أنها ستنجح، بل من المستحيل لها أن تنجح. والخلاصة هو أنه ثمة مواجهة مباشرة تجري بين الجيل الفلسطيني الجديد والاحتلال وهذه المواجهة ليس لها اسم سوى أنها «انتفاضة فلسطينية جديدة».
القدس العربي