سرقة الأموال في العراق مقابل القرض التونسي
أعلن صندوق النقد الدولي، الأسبوع الماضي، عن توصله إلى اتفاق مع الحكومة التونسية لمنحها قرضا بقيمة 1.9 مليار دولار لمدة 48 شهرا، بشرط موافقة المجلس التنفيذي للصندوق الذي سيناقش الطلب في شهر كانون الأول/ ديسمبر القادم، مقابل تعهد الحكومة بتنفيذ حزمة من الإصلاحات الاقتصادية من بينها تقليص دعم المواد الغذائية الأساسية والطاقة المعمول بها حاليا، وتجميد التوظيف في القطاع الحكومي، وإعادة هيكلة المؤسسات الحكومية. يهدف القرض، حسب صندوق النقد الدولي، إلى مساعدة تونس لتجاوز الأزمة الاقتصادية الحادة التي تمر بها و«استعادة الاستقرار على مستوى الاقتصاد الكلي وتعزيز الأمن الاجتماعي والعدالة الجبائية وتكثيف الإصلاحات لإرساء مناخ ملائم لتحقيق النمو الشامل وفرص العمل المستدامة.»
تطلب الوصول إلى هذه الاتفاقية عدة مراحل من مفاوضات استغرقت شهورا، التقى خلالها وفد حكومي تونسي مع صندوق النقد الدولي. ضم الوفد وزيرة المالية ووزير الاقتصاد ومحافظ البنك المركزي لمناقشة الشروط.
تعطينا هذه التفاصيل صورة عامة عن معنى مرور بلد ما بأزمة اقتصادية وكيفية قيام الحكومة بأداء واجبها في إيجاد الحلول ولو بشكل قروض مشروطة عبر مفاوضات يُشارك وزراء كل في مجاله. هذا ما تعيشه تونس للحصول على قرض قيمته 1.9 مليار دولار، فقط، أملا في تحسين الأوضاع. تأخذنا تفاصيل الصورة إلى العراق حيث تم في ذات الوقت الإعلان عن سرقة 2.2 مليار دولار في ظل الحكومة العراقية ومع وجود وزراء للمالية والاقتصاد ومحافظ للبنك المركزي. وهو حدث غطى على ظاهرة «المظاهرات المليونية» والتطبيل لها عن معجم التداول اليومي للساسة، لتبرز على السطح عناوين السرقة الترليونية الكبرى، وسرقة القرن الأسطورية، وأكبر سرقة في التاريخ، وأكبر قضية فساد، وتريليونات الضرائب. فكيف يتم اختفاء مبلغ كهذا بينما تقضي دول أخرى شهورا من المفاوضات تحت قائمة من الشروط وبدعم دول عظمى للحصول على مبلغ أقل؟ ما هو دور الحكومة؟ ومن هي الجهات المسؤولة وكيف سيتم التعامل معها؟ وهل سيكون بالإمكان استعادة المبلغ الخيالي المسروق؟
طفت حكاية سرقة المليارين ونصف مليار دولار من أموال الضريبة في مصرف الرافدين الحكومي في بيان أصدره وزير المالية بالوكالة، متهما ما أسماه «مجموعة محددة» قبل أن يطلب إعفاءه من المنصب. اضطر مجلس القضاء، إزاء حجم السرقة الذي تجاوز عديد الاختلاسات السابقة، إلى إصدار مذكرات استدعاء بحق عدد من المدراء في المجال الضريبي والرقابي للتحقيق معهم بالإضافة إلى « تشكيل لجنة تدقيقية مشتركة من وزارة المالية والهيئة العامة للضرائب ومصرف الرافدين وهيئة النزاهة لتدقيق المبالغ المصروفة».
وهي خطوة أثارت الكثير من التعليقات الساخرة مثل «حاميها حراميها» وأن الإعلان الرسمي عن اختفاء المليارين ونصف مليار، هو محاولة لتغطية بركة الفساد المالي – السياسي الآسنة بغشاء من زيت «النزاهة» المُعّطر ليضمن استمراريتها. لا تنبع هذه التعليقات الساخرة المريرة من فراغ بل من انعدام الثقة بجدوى اللجان والتحقيقات الرسمية، على مدى العقدين الأخيرين، والتي غالبا ما تعمل على دفن الحقائق أو تمويهها، لسبب بسيط وهو استشراء الفساد في كل ركن من الحكومة بدءا من الرأس إلى أصغر مستخدم فيها، وتمكُن المسؤولين من الافلات من العقاب. وتشير سردية الكشف عن الفضائح المتكررة أنه إذا ما حدث وكشف أحد المسؤولين الحكوميين عن فضيحة اختلاس أو جريمة أثناء تبوئه أحد المناصب، فإنه غالبا ما يقوم بذلك أما لأنه أُقيل من منصبه أو أنه التهم ما يكفي لإطفاء جشعه فيُفضل مغادرة البلد إلى بلد يحمل جنسيته، أو لأنه تعرض للابتزاز من جهة سياسية مغايرة تشعر بأن منصبه من حقها فيشعر بتهديد حياته، لفهم هذه الأجواء الغرائبية هناك أمثلة عدة لعل أكثرها تفصيلا وعلاقة بالاختلاس الأخير هي رسالة استقالة وزير المالية السابق علي علاوي التي تحدث فيها عن تفاصيل عمله وأسباب استقالته وما تعرض له من ضغوطات، ولم ينس تعداد، ما أنجزه من نجاحات، بإسهاب. مع العلم أن ما وصفها بـ «بواحدة من أكبر الفضائح المالية في العصر الحديث» تمت أثناء تبوئه منصب وزير المالية.
مع انتشار رائحة السرقة وتفاصيل الفضيحة عاد علاوي للتصريح حول العوامل التي مكنت حدوث السرقة ومنها، حسب تعبيره، تأخر وزارة المالية في مجال «اعتماد أنظمة المعلومات والمحاسبة وإعداد التقارير الآلیة»، و«عدم انصياع بعض المدراء العامين وموظفي الدولة الى الأنظمة والقوانین الحاكمة في مهامهم، وعدم اتباعهم الأوامر الوزارية وتوجيهات الوزير، واخفائهم المعلومات، ومنع الدوائر الرقابية القيام بدورها والإبلاغ عنها»، ملقيا اللوم على ولاء الموظفين « لجهات سیاسیة متنفذة تسترزق من حیتان الفساد وتوفر الحصانة إلى الفاسدين». وهي أسباب كانت معروفة قبل قبوله تسنم منصب الوزير، وما كان بحاجة إلى أن يُصبح جزءا منها، وهو السياسي الذي خاض غمار «العملية السياسية» منذ أعوام الاحتلال الأولى ليكتشف ويكشف، بعد استقالته، يومياتها. فمن المعروف أن العراق يحتل واحدة من المواقع الأدنى بين الدول في مؤشر منظمة الشفافية الدولية للفساد. ولا يكاد يمر أسبوع بدون الكشف عن فضيحة مالية أو الاحتيال في العقود الحكومية عن طريق استخدام شركات صورية، أو تعيين موظفين وهميين، وسرعان ما يتم تشكيل لجنة تحقيق تؤدي، غالبا، إلى التغاضي عن هرب المتهمين إلى الخارج، خاصة إذا كان المسؤول الفاسد من حملة جنسية أحد البلدان الأوروبية أو حاصلا على الإقامة الخاصة برجال الأعمال.
وإذا كان صندوق النقد الدولي لا يقدم القروض التسهيلية للحكومات التي تمر بأزمات اقتصادية إلا بعد فرض شروط قاسية، كما في تعامله مع تونس، فإن الدول الرئيسية في الصندوق، لا تكيل بنفس المكيال لغسيل الأموال لديها. حيث يجد الساسة الهاربون أو من يقدمون أنفسهم كرجال أعمال ملاذا اقتصاديا آمنا للأموال المُهرّبة في الدول الرئيسية بأقل الشروط. وجوابا على سؤال عما إذا كان بإمكان العراق استرداد المليارات المنهوبة فان إلقاء نظرة واحدة على المتصارعين على المناصب الحكومية، حاليا، وتدوير ذات الوجوه التي رعت الفساد على مدى عشرين عاما الأخيرة، سيعطينا الجواب.
القدس العربي