سارقو الحرية
تسرق الثورات، غالباً ما تسرق، الربيع العربي نموذج ساطع على هذا، الانتفاضة الفلسطينية الأولى نموذج آخر، معظم بلاد العالم سرقت ثوراتها، ليس غريباً أن البؤس يعم الكرة الأرضية، وبعض الثورات سرقت شعوبها. كثير من الثورات سرقت شعوبها، انقلبت عليها، الأوطان غنائم كبرى لمن تستر تحت رايات الثورة أو خلف منابر التبشير بالآتي . الآتي يسرق دائماً، كل جميل آت يسرق دائماً، لكن الشعوب لا تكل ويواصل دمها الحلم بيوم تكون فيه سيدة مصيرها.
في عالمنا العربي، القادم يسرق، أجل، ولكن هناك من يتقنون سرقة الماضي. يسرقونه نهاراً جهاراً بأعين مفتوحة لا تعرف الخجل، وأجبن (جمع جبين) تسرق ارتفاعاتها رغم الهوة السحيقة لماضيها.
ليس غريباً أن يعيد هؤلاء إنتاج تاريخهم معكوساً، وعلى أعين الشهود، ففي الوقت الذي كانوا فيه جزءاً من السلطة القامعة، كتاباً للتقارير أو أذرع بطش، يخرجون عليك بكتب ومذكرات ومقالات ينتقدون فيها الماضي، بالقوة المتاحة لهم في أن يشهروا نشاطاتهم في أفضل المراكز الثقافية، لينظفوا صورهم الملطخة عبر أعمال أدبية وفنية متعددة، يحف بهم أنصاف ثوار وأنصاف قامعين، مباركين إنتاجهم، قافزين عن كل ما يعرفونه من تاريخ المحتفى بهم.
سارقو النضال هؤلاء يحتلون المكانة التي احتلها ضحاياهم، بمديحهم لضحاياهم، وزج أنفسهم في ساحات معارك كانوا يحصون فيها عدد القتلى لا أكثر، ويعملون الكثير لكي يتمكنوا من قتل من نجا، أو تشويهه أو حبسه أو سرقة اللقمة من أفواه أطفاله.
هؤلاء الذي احتلوا مراكز عليا في أزمنة القهر، حين لم يكن «الرفاق» الذين يبجلونهم اليوم لا يجدون فرصة عمل، أياً كان هذا العمل، حين كانوا يسافرون ويجوبون العالم ولم يكن الرفاق يملكون أجرة سيارة تنقلهم حتى إلى بيوت أخواتهم وأمهاتهم، وكانت جوازات سفرهم تقبع في أدراج مكاتب الأمن، ولكنهم لم يستكينوا ولم يتراجعوا، ومات بعضهم قهراً، ومات آخرون دون أن يجدوا العلاج اللازم لهم.
سارقو النضال هؤلاء، الذين يستعيدون الماضي باعتبارهم أبطاله، والرفض باعتبارهم معلميه، والأمل الذي كان باعتبارهم حراس أحلامه، والحقيقة باعتبارهم المدافعين عنها، والهبات والانتفاضات باعتبارهم أسراها وجرحاها وشهداءها، يكذبون علناً، لا في صالوناتهم أو صالونات من قرروا الاستغناء عن نصف ذاكرتهم، لكي يعيشوا ولو نصف يومهم الآن، إنهم يكذبون في كل مكان؛ على صفحات الصحف التي كانوا كتابها في أزمنة القمع، وعلى صفحاتها في أزمنة النضال المترهل المتكرش، النضال المكتبي، ويكذبون عبر الهواء مباشرة عبر الفضائيات الداخلية والخارجية، ويتاح لهم أن يتغنوا بماضيهم الثوري الذي لم يقترب من الثورة إلا لينخرها، ولتثبت الأنظمة بكذبهم أنها شفافة في الحديث عن الماضي، وقابلة للنقد، وهي بذلك مثلهم، تسرق ماضي الثورات بحرية زائفة مدعية.. الأنظمة التي كانت تتفنن في سحق كل من تهب عبر قلبه ريح معارضة أو حتى نسيمها، وأتقنت الكذب مثل مخبريها على قاعدة:
«دعهم يحسون بالحرية
ولكن لا تعطهم الحرية.
دعهم يخافون على الوطن ولكن لا تعطهم الوطن.
دعهم يدافعون عن الأمان
ولكن دعهم خائفين.
دعهم يأكلون ويشربون
ولكن بما يكفيهم لأن يعيشوا لا أكثر
دعهم يتحدثون ويبوحون بكل ما في قلوبهم
وعلى الهواء مباشرة
لكن لا تعطهم الأوكسجين.
ليست المشكلة في أنظمة هذا أفقها وهذه سيرتها وهذا منهجها، ولكن المشكلة في ضحايا تتنازل عن نصف ذاكرتها، إن لم تتنازل عن ذاكرتها كلها لتعيش، ونضال يخدع نفسه بأنه استطاع تغيير ما كان، بما هو ممكن، من أجل حفنة من هواء ملوث، وأحزاب باتت تتسول حصتها من الدعم الرسمي، كما يتقاضى مربو المواشي حصتهم من الأعلاف لأغنامهم، وما يتقاضى المزارعون حصتهم من الماء لمزروعاتهم، وتتقاضى فئات أخرى حصتها من الوظائف وحصتها من الفساد وحصتها من التغول وحصتها من الكلام كما يحدث مع سارقي النضال أنفسهم.
مرعب أن يتحول هؤلاء إلى تابعين لجلاديهم، بتبرعهم السخي لأن يكونوا كذلك، وأن يقبلوا بالصفوف الخلفية، وبربع الكلام المتاح لأولئك، وربع الهواء المتاح لشعوبهم، وهم يقننون ألسنتهم وكل كلام ملتصق بها، ويقننون قوة إبصارهم بكثير من العمى، ورؤيتهم بكثير من التغابي.
يعرف هؤلاء وهؤلاء أسرار اللعبة، فئة تجاهر بما ليس فيها وفئة تغض الطرف عن ماضيها وهو يغتصب، وتغلق عينيها تماماً أمام مستقبل تعرف أن ليس للبشر فيه ما يكفي من ماء وهواء وأمان وغذاء وتعليم وحرية.
وبعد:
لا أظن أننا بلغنا الجدار الأخير، لأن كل ما فينا يواصل الاصطدام بجدار ما مع كل شروق.
ولذا، وكما علمتنا التجارب، فإن هذا الاصطدام كان كفيلاً دائماً بإحداث أثر من اثنين أو كليهما:
أن يصحو البشر أو يتهدم الجدار.
ورأى مدناً تُباعُ وتُشترى..
رأى شهداء، وخلفهُمُ في الظّلام الزنازين والمُخبِرا
ورأى ما رأى
كلّ شيء هنالكَ فوقَ الجدارْ
واضحاً،
والهواء دَماً طائراً
ورأى ما رأى
كلما سكتتْ فُوَّهاتُ البنادقِ
تغدو خنادقُنا متْجَرا!
القدس العربي