أربيل الجديدة القديمة
أربيل وأنت تعود إليها بعد ثماني سنوات تجدها دائما في حركة لا تفتر وتوسع لا يتوقف. هذه المدينة، القلب النابض لإقليم كردستان العراق وعاصمته، تبدو مقرّة العزم على أن تكون مختلفة عن باقي العراق لكن ذلك لم يحل دون أن يظل القلق ملازما لها حتى وهي تزدهر.
صادف الوصول إلى أربيل هذه المرة مع حدثين لا تفصل بينهما سوى ساعات قليلة: الأول الانفجار الدموي في شارع تقسيم بإسطنبول والثاني قصف صاروخي إيراني على بلدة كويسنجق 60 كلم شرق أربيل. الأهمية التي تابع بها الإقليم الحدثين يقيم الدليل، مرة أخرى، على مدى حساسية موقع الإقليم وقابليته للتأثر بكل ما يدور حوله.
وإذا كانت هذه أحكام الجغرافيا، فإن هذه الأحكام نفسها تفرض على الإقليم أن يكون أكثر مرونة في التعاطي مع ملف المصالحة مع الحكومة الاتحادية في بغداد لأنه لا يملك ترف أن يظل قلقا مع جيرانه شمالا ومع باقي أبناء وطنه جنوبا، وقد يكون موقف الخارجية العراقية الذي قال إن الحكومة ستتخذ «إجرءات دبلوماسية عالية المستوى ضد الهجمات الإيرانية» فرصة لمد الجسور من جديد مع بغداد، خاصة مع وجود رئيس جديد ونوع من التجاوز للمأزق السياسي الأخير.
أربيل اليوم وأنت تتجوّل في أحيائها وضواحيها تراها مدينة لا تهدأ فقد ازدادت في الأعوام الماضية أعداد القادمين إليها من داخل العراق نفسه ومن دول الجوار. قصدها الآلاف بحثا عن الأمان والاستقرار، جاؤوها من أكراد سوريين وإيرانيين، ومعهم جاء أيضا عرب كثر من بغداد وباقي المحافظات، فقد وجدوا فيها ليس فقط الأمان والنظام اللذين افتقداهما وإنما أيضا استثمارية مختلفة.
أصبحت أربيل أكثر انفتاحا في استقبال كل هؤلاء بعد فترة ظلت فيها متوجسة إلى حد كبير في السماح بدخول غير الكرد خاصة حين كان تنظيم «داعش» يصول ويجول في البلاد حتى بات في وقت من الأوقات على بعد 30 كيلومترا فقط من المدينة. هذا الانفتاح في السنوات القليلة الماضية جعل التدفق نحو أربيل أقوى من السابق حتى بات اثنان من كل خمسة تقريبا من سكان أربيل وضواحيها، وعددهم يضاهي المليونين، من غير أصيلي إقليم كردستان العراق. وبالتوازي ولدت ليس فقط حركية تجارية نشطة وإنما أيضا نهضة عمرانية واضحة للعيان ببناء الكثير من العمارات والمجمّعات السكنية ومنها الراقي للغاية.
مشكلة كردستان العراق أن لا منفذ بحريا له، كما يقول أبناؤه بنوع من الحسرة، فهو محاط بدول لا تربطه بها علاقات ثقة حميمة سواء تركيا أو إيران مع جار سوري مضطرب، فضلا عن الإقليم نفسه ليس منسجما بالكامل بين أبنائه مع ذلك الانقسام التقليدي التاريخي بين أربيل معقل «الحزب الديمقراطي الكردستاني» والسليمانية معقل غريمه «الاتحاد الوطني الكردستاني». وطالما أن الوضع كذلك فقد يبدو أن الخيار الأفضل للإقليم هو التوجّه إلى تجاوز الخلافات مع الحكومة المركزية ولو بتقديم ما يراه تنازلات كبيرة. صحيح أن هذه الخلافات كثيرا ما جرى حلها مرات عدة في السابق لكن اتضح سريعا في كل مرة أنها مجرّد حلول مؤقتة.
أول النقاط الخلافية بين بغداد وأربيل تتعلق بالنفط المستخرج من الإقليم وهو موضوع شائك وقديم لكنه تفجر مؤخرا في ضوء قرار المحكمة الاتحادية الذي لم يعترف بقانون النفط والغاز لإقليم كردستان. هذا القرار يرى، استنادا إلى المادة 112 من الدستور التي تنص على أن عملية ادارة النفط حق حصري ببغداد، أن أربيل ليس لها الحق في ما تقوم به منذ سنوات من استخراج للنفط وبيعه.
أربيل التي أعلنت رسميا عدم اعترافها بقرار المحكمة تقوم بتصدير زهاء 250 ألف برميل نفط يوميا لكنها لا تقوم بتسليم الأموال التي تحصل عليها من ذلك إلى الحكومة الاتحادية، والتي يفترض أن يكون مقابلها حصول الإقليم على حصتها الكاملة من الموازنة الاتحادية، مما أدى في النهاية إلى تعليق تسليم هذه الحصة.
ثاني النقاط الخلافية هو ما يسمى «الأراضي المتنازع عليها» فأربيل تطالب بأراض تمتد لمحافظات نينوى وصلاح الدين وديالى وكركوك. بل إن أربيل تعتبر كركوك الغنية بالنفط جزءا من الاقليم، وتصفها بأنها العاصمة الحقيقية لإقليمها، وهو ما لا ترضى به أبدا كل المكوّنات السياسية في بغداد، رغم الخلافات التي بينها.
ثالث النقاط الخلافية هي تحديد حصة الإقليم من الموازنة الاتحادية، فأربيل تطلب دائما أن تكون حصتها هي 17٪، وهي نسبة ترفضها بغداد وتقول إن هذا يتنافى مع أصل القانون الذي ينص على أن تحديد النسبة يجب أن يكون وفق عدد السكان التي قدّرتها بما يتراوح بين 11-12٪، وهو ما ترفضه أربيل.
ليس متوقّعا طبعا أن تحل هذه المشاكل جذريا ودفعة واحدة ولكن من الحكمة أن يبدأ المسعى نحو ذلك، على الأقل من الأسهل نحو الأصعب، ففي ذلك مصلحة مشتركة لكل من أربيل وبغداد لأن كلا منهما يحتاج فعلا إلى الآخر وكلا منهما سيكون أقوى بالآخر.
القدس العربي