لبنان وصندوق النقد الدولي: تؤخذ الكهرباء غلابا!
في تقريره عن الاقتصاد اللبناني، اعتبر البنك الدولي «أن تعويم القطاع المالي بات امراً غير قابل للتطبيق، نظراً لعدم توفّر الأموال العامة الكافية لذلك، فأصول الدولة لا تساوي سوى جزء بسيط من الخسائر المالية المقدّرة، كما لا تزال الإيرادات المحتملة من النفط والغاز غير مؤكدة ويحتاج تحقيقها سنوات».
فوق ذلك، تشترط أمريكا لتزويد لبنان بمساعداتها المالية وبقروضٍ من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، عدم استيراد الفيول والمازوت والبنزين من إيران أو روسيا.
لا نفط لدينا ولا غاز، إذن لا كهرباء.. ما العمل؟
في ندوةٍ بحثية موضوعها «الفراغ: الخيارات السياسية لتشكيل المرحلة الانتقالية»، نظّمها المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق، تقدّم الدكتور حيّان سليم حيدر باقتراح جريء للخروج من الأزمة: تحدّي أمريكا بقبول الفيول والمازوت المعروض كهبة من إيران أو روسيا، لتشغيل معامل توليد الكهرباء المتوجبة للإنارة وتشغيل المصانع ومؤسسات الإنتاج والخدمات، والبنزين لسيارات النقل اللازمة لتفعيل مختلف روافع الاقتصاد الوطني. مضمون الاقتراح شعارٌ مستوجب التنفيذ السريع: «يا أمريكا، لا كهرباء للبنان يعني لا كهرباء لـِ»إسرائيل». ما رمى إليه الدكتور حيدر هو اعتماد موقف مشابه لموقف حزب الله عندما احتدم الصراع مع «إسرائيل» بشأن ترسيم حدود مناطق النفط والغاز في المياه الإقليمية بين لبنان وفلسطين المحتلة، إذ هدّد الحزب الكيانَ الصهيوني بتدمير حقل كاريش النفطي، إذا منعت «إسرائيل» لبنان من التنقيب عن النفط والغاز في حقل قانا.
خشيةُ «إسرائيل» من تدمير كاريش حملتها على الرضوخ لمطلب لبنان، فكان أن أسعفتها أمريكا بتوليف اتفاقٍ لترسيم الحدود البحرية بين الطرفين المتنازعين. سألتُ الدكتور حيدر بعد انتهاء الندوة: ماذا لو ثابرت أمريكا على عدم السماح للبنان بقبول هبة الفيول والمازوت المجانية المعروضة من إيران وروسيا؟ أجاب أن على حزب الله في هذه الحالة القيام بضرب معامل توليد الكهرباء في «إسرائيل». قلتُ له إن الرأي العام العالمي لن يعتبر «إسرائيل» مسؤولة عن قيام أمريكا بمنع لبنان من قبول هبة نفطية مجانية من هذه الدولة أو تلك، كما أن لبنان وحزب الله عاجزان عن الاقتصاص من أمريكا. لكن يمكن اعتماد اقتراحك الجريء بقبول الهبة النفطية المجانية الإيرانية أو الروسية بطريقةٍ آمنة وأقل تكلفة على النحو الآتي:
ـ تضغط القوى السياسية والشعبية على حكومة نجيب ميقاتي لاتخاذ قرار بقبول الهبة الإيرانية أو الروسية، وإذا رفضت يُفترض بحزب الله أن يكون مستعداً لاستقبالها كما فعل قبل أشهر قلائل، عندما قام بتسلّم حمولة باخرتين من المازوت الإيراني في ميناء بانياس السوري، ثم تولّى نقلها براً بصهاريج إلى لبنان وتوزيعها على مؤسسات ناهضة بخدمات عامة أو مشروعات اجتماعية خيرية.
ـ سوريا تقوم منذ سنوات باستيراد نفط وغاز وبنزين من إيران وروسيا عن طريق موانئها البحرية، ولم يحدث أن اعترض الأسطول الأمريكي في البحر الأبيض المتوسط أيّا من الناقلات أو البواخر العاملة في هذا المجال، وليس من المعقول أن تتصرف أمريكا على نحوٍ مخالف في حال قيام الحكومة اللبنانية، أو اية جهة لبنانية غير حكومية باستيراد الفيول والمازوت والبنزين من إيران أو روسيا، من خلال موانئ سورية.
ـ بعد وصول شحنات الفيول والمازوت والبنزين إلى لبنان، يُصار إلى تسليمها إلى معامل توليد الكهرباء العائدة لمؤسسة كهرباء لبنان الحكومية، لتقوم بتنفيذ مهامها بلا إبطاء.
ـ يُستبعد أن تمنع حكومة ميقاتي عبور صهاريج الفيول والمازوت والبنزين المقبلة من سوريا إلى لبنان، وهي غير قادرة أصلاً على ذلك. إذا ركبت الولايات المتحدة رأسها وقررت فعلاً منع الناقلات والبواخر من نقل الفيول والمازوت والبنزين المرسل إلى لبنان عبر سوريا، فإن الحكومة وحتى أيّ جهة لبنانية أخرى مقتدرة، تستطيع قبول عرض إيران وروسيا بإقامة معملٍ أو أكثر لتوليد الكهرباء في شمال لبنان أو في جنوبه.
ـ غنيّ عن البيان أن الجهات اللبنانية غير الحكومية الناهضة بمبادرة توفير الوقود اللازم لتوليد الكهرباء، يجب أن تكون قد أعدّت نفسها لتأمين جميع المستلزمات اللوجيستية اللازمة لتنفيذ التدابير سالفة الذكر، وفي مقدمتها تنظيم تحالف سياسي وشعبي لرعاية ومساندة تنفيذ الإجراءات والترتيبات اللازمة للوفاء بمتطلبات المبادرة المذكورة.
ما هي الانعكاسات الخارجية والداخلية الممكن حدوثها في سياق تنفيذ هذه المبادرة، أو بعدها؟ أستبعدُ أن تقوم الولايات المتحدة في معمعةِ ما تواجهه من تحديات ومسؤوليات في زمن الحرب الروسية – الأوكرانية، والمناوشات الإسرائيلية -الإيرانية، والحرب التركية – الكردية، وتداعيات قطع الغاز الروسي عن دول أوروبا، والانقسام الحاصل في ما بينها حول طريقة معالجة هذه المشكلة، والصراع الاقتصادي المتصاعد حاليّاً بين أمريكا والصين، أستبعدُ أن تقوم واشنطن باتخاذ تدبير عدائي ضد لبنان وسوريا في هذه الآونة. بالعكس، أتوقع أن تسارع واشنطن إلى استدراك مفاعيل المبادرة النفطية الحكومية، أو الشعبية اللبنانية سالفة الذكر بالمسارعة إلى رفع الحظر المفروض على سوريا بموجب قانون قيصر العقابي، لتمكين مصر من تمرير نفطها إلى لبنان عبرها، ورفعه أيضاً عن الأردن لتمرير كهربائه إلى لبنان، حسب الاتفاق الجاري بين هذه الأطراف الثلاثة، الذي كانت واشنطن قد وعدت بتسهيل تنفيذه بتجميد قانون قيصر المفروض على سوريا، لتمكين النفط المصري والكهرباء الأردنية من العبور إلى لبنان. داخلياً في لبنان، أتوقع أن تحاذر جميع القوى السياسية في الحكم كما في المعارضة، من أن تظهر بمظهر المعارض لوصول الفيول والمازوت والبنزين إلى البلاد لحل مشكلة الكهرباء والنقل، وإعادة تشغيل المصانع ومرافق الخدمات والإنتاج. إلى ذلك، فإن موقف مختلف القوى السياسية من هذه المسائل، ذات الأهمية الاستراتيجية والمعيشية، سينعكس بالضرورة على مسألة انتخاب رئيس جديد للجمهورية، ذلك أن القوى السياسية المؤيدة والمنخرطة في مبادرة الاستحصال على الفيول والمازوت والبنزين من إيران أو روسيا، ستكسب سياسياً وتزداد حظوظها في هذه الحالة ليكون رئيس الجمهورية الجديد من حصتها.
لعل الأمثولة الأبرز الممكن استخلاصها من هذا الصراع المحتدم حول الحاجة إلى الفيول والمازوت والبنزين، وضرورة توفير مصادر الطاقة اللازمة لتوليد الكهرباء هي وجوب محاكاة أحمد شوقي الداعي إلى أن نيل المطالب لا يكون بالتمنّي، بل بالتغلّب، فنردّد قولته الشاعرية الفذّة بصيغةٍ عصرية:
وما نيل المطالب بالتمنّي ولكن تُؤخذ الكهربا غلابا
القدس العربي