الهوية العروبية كمدخل للوحدة العربية
بينا في مقال الأسبوع الماضي (العودة إلى شعار الوحدة الوجودي) أن الوعي الجماهيري العربي، الذي تجلى بأشكال مختلفة مبهرة في مونديال كرة القدم في الدوحة، قد أثبت أن المشاعر التضامنية الأخوية والتزامات الهوية العروبية الجامعة ما بين العرب، كأفراد وجماعات وأقطار، لم تتأثر إطلاقاً بحملات الدوائر الاستعمارية والصهيونية وبعض التابعين لهما من العرب الجهلة والانتهازيين، التي عملت عبر سنين طويلة على تشويه تلك المشاعر والالتزامات أو طمسها أو تضليلها بالكذب والافتراء، أو إضعاف الذاكرة الجمعية القومية للملايين من أبناء الأمة.
لقد كانت حناجر عشرات الألوف من الحاضرين العرب في ذلك المونديال، تصرخ بصوت غير مباشر في وجه مفكري ومثقفي وقادة المؤسسات السياسية والمدنية الأخرى: ارجعوا وعودوا إلى شعار الوحدة العربية الوجودي.
ولكن قبل الحديث عن مزايا الوحدة والطرق المؤدية إليها، دعنا نبرز لشابات وشباب الأمة بعض المنطلقات الأساسية التي من دون الاتفاق على معانيها ومضامينها سيبقى شعار الوحدة تائهاً وغامضاً ونظرياً.
في قلب تلك المنطلقات موضوع الهوية العروبية التي تعني شعور الإنسان العربي العميق ويقظة وعيه بانتمائه إلى وطن عربي واحد، وبالتالي إلى أمة عربية واحدة، كجواب على تساؤلاته عمن يكون وإلى أين هو ذاهب، التي تعني أيضاً أن العرب ينتمون لثقافة واحدة وتاريخ مشترك يتمايز بهما العربي بين سائر الثقافات الأخرى التي تعني أيضاً وجود علاقة خاصة، عبر القرون الطويلة، ما بين تلك الهوية ودين الإسلام، من حيث انتماء كل عربي للإسلام كلغة عربية قرآنية وكحضارة، وكمصدر لقيم إنسانية كبرى تتمثل على الأخص في قيم الكرامة الإنسانية، التي لا توجد إلا بتحقق العدل والقسط، وتحقق المساواة في الخيرات والحقوق والواجبات، وتحقق حرية الفرد المتناغمة مع حرية الجماعات، وتحقق مبدأ الشورى الديمقراطية. وهي قيم تتحسن وتسمو مع مرور الأزمنة وتغير الأحوال وتنامي العلم والمعرفة، وتنسجم على الأخص مع منطلقات الديمقراطية الكبرى. وهي علاقة تتناقض كلياً مع التزمت الديني المنغلق واستعماله بانتهازية في الأمور التنظيمية السياسية والاقتصادية والمعيشية الدنيوية. وبالتالي فهي علاقة تغرس قيم الفضيلة واستعمالات المعرفة بإنسانية وعقلانية في عقول وقلوب الأجيال، وتبعدهم عن التعايش مع الاستبداد والفساد والامتيازات الفئوية والولاءات الطائفية والقبلية الضيقة. ومن خلال تلك العلاقة الخاصة تنتهي الصراعات والمماحكات في المجتمعات العربية، بسبب تعدد الإثنيات واللغات والثقافات المحلية الفرعية والديانات والطوائف، التي تتناقض كلياً مع قيم المساواة والكرامة والعدل والشورى والديمقراطية والأخوة الإنسانية. وفي الوقت نفسه يتعايش الولاء لتلك الهوية العروبية بانسجام أخلاقي وعقلي مع الولاءات الفرعية، مثل الولاءات الدينية والمذهبية والقبلية والسياسية والأيديولوجية، طالما أن تلك القيم المشتركة هي التي تحكم ذلك التعايش وتضع ضوابطه المسلكية.
يبقى بعد آخر مهم لموضوع الهوية: بعد علاقتها بالسلطة ذلك أن من يملك السلطة والقوة، حتى الشرعية منها، سيكون قادراً على التلاعب بتعريف الهوية ومكوناتها وأهدافها. هذا جانب يحتاج أن يعيه الشباب والشابات بقوة، إذ بسوء استعماله يمكن للهوية أن تنقلب إلى أضحوكة ومجموعة بلاءات لا تخدم إلا صاحب السلطة، وما يتبعها من أدوات القوة والهيمنة. من دون فهم عميق عقلاني إنساني لموضوع الهوية من المنطلقات وغيرها الأساسية سيكون الانتقال إلى شعار الوحدة العربية محفوفاً بالمشاكل والمخاطر.
القدس العربي