ركود في الاقتصاد الأميركي يلوح في الأفق
جاءت الإشارة الأوضح على أن الاقتصاد الأميركي من المحتمل أن يسقط في حالة من الركود، العام المقبل، متمثلة في معدلات الفائدة. ومن بين أوائل من أقروا أهمية معدلات الفائدة من حيث كونها إشارة دالة على الركود، أرتورو إستريلا، الخبير الاقتصادي السابق لدى بنك الاحتياطي الفيدرالي. وقد التقيته قريباً وأجريت معه حديثاً حول حياته وأبحاثه وتوقعاته الاقتصادية.
وقبل أن أستفيض في الحديث عن إستريلا، دعوني أتحدث أولاً عن رسم بياني أثار قلقاً عميقاً في أوساط كثير من الخبراء الاقتصاديين. ويكشف الرسم البياني مسار العائدات على اثنين من سندات الخزانة المالية، هذا العام: سندات ثلاثة شهور وأخرى لعشر سنوات. في أكثر من 90 في المائة من الحالات، يأتي العائد على الوثيقة الأقصر أجلاً أقل من عائد الأخرى الأطول أمداً. وعندما يتحول هذا النمط إلى الاتجاه المعاكس، مثلما حدث هذا العام، يعد ذلك مؤشرا قويا على أن الركود على الأبواب.
وللتعرف على السبب وراء يقين إستريلا من أن الركود أصبح وشيكاً، ينبغي الانتباه إلى أنه عندما تكون هناك فجوة ملحوظة بين المعدلات قصيرة وطويلة الأمد، بأي من الاتجاهين، تصبح الصورة الأكبر أوضح كثيراً.
وتبعاً للحسابات التي أجراها إستريلا، فإنه بالعودة إلى 1968، في كل مرة كان المعدل طويل الأمد أعلى من الآخر قصير الأمد 0.07 في المائة على الأقل، تمكن الاقتصاد من الفرار من قبضة الركود. وفي كل مرة كان المعدل طويل الأمد أقل من المعدل قصير الأمد بنسبة 0.07 في المائة، دخل الاقتصاد في موجة ركود في غضون فترة تتراوح بين 6 و17 شهرا. وقد بلغ متوسط الفجوة في ديسمبر (كانون الأول)، 0.81 في المائة، ما يشكل الفجوة الأكبر منذ عام 1981، ما يعني أن الاقتصاد دخل بعمق في حالة ركود.
والتساؤل هنا: لماذا يحمل «انعكاس منحنى العائد»، مؤشرات تتعلق بالنظرة الاقتصادية المستقبلية؟ في الواقع، الأمر بغاية البساطة. يتمتع بنك الاحتياطي الفيدرالي بنفوذ قوي على أسعار الفائدة قصيرة الأمد. وعندما يرفع أسعار الفائدة قصيرة الأمد ـ عادة من أجل القضاء على التضخم ـ فإنه بذلك يجعل الاقتراض أكثر تكلفة، الأمر الذي غالباً ما يتجاوز المدى المطلوب ويسبب الركود. في الوقت ذاته، يمكن أن تنخفض المعدلات طويلة الأمد، بسبب توقعات انخفاض التضخم أو انخفاض سعر الفائدة «الحقيقي» (مع التعديل حسب التضخم). وتتصاعد هذه التوقعات عندما يبدو الركود محتملاً.
وجاء أول من أثبت أن انعكاس منحنى العائد ينبئ عن الركود، في ورقة بحثية صادرة عن الاحتياطي الفيدرالي بنيويورك عام 1989 من إعداد إستريلا وجيكاس هاردوفيليس، والتي نُشرت في وقت لاحق في «جورنال أوف فاينانس». وإن كان ذلك لا ينفي أن بعض العلماء الآخرين، بما في ذلك كامبل هارفي من كلية فوكوا لإدارة الأعمال بجامعة ديوك، نظروا بشكل عام إلى قيمة منحنى العائد من حيث قدرته على التنبؤ بموجات الركود.
وأخبرني فريدريك ميشكين، الاقتصادي بجامعة كولومبيا، والذي كان لبعض الوقت رئيساً لإستريلا في العمل، عندما كان ميشكين مدير الأبحاث داخل الاحتياطي الفيدرالي بنيويورك، أنه: «كان أرتورو من أفضل العقول. كان رائعاً حقاً».
ولدى إستريلا قصة يسردها كيف أنه أثار بالصدفة غضب إي. جيرالد كوريغان، الذي كان يتولى رئاسة الاحتياطي الفيدرالي بنيويورك آنذاك. كان محافظ الاحتياطي الفيدرالي بواشنطن قد طلب إجراء بحث، حول ما إذا كان منحنى العائد يحمل في طياته قوة للتنبؤ بمستقبل المسار الاقتصادي. وبالفعل، كلف كوريغان رجالَه للعمل على ذلك، على أمل إظهار أن الإجابة بالنفي. إلا أن إستريلا، لم يكن على علم بميول كوريغان. ولذلك، فقد ذكر ببراءة أثناء اجتماع كبير أن الإجابة نعم. وأظهر بحثه أن منحنى العائد له قوة تنبئية. وقال إستريلا: «لم يكن رد فعله شيئاً يمكن الحديث عنه في الصحف. وساورني اعتقاد بأنني سأفصل من عملي. وبعد بضعة أشهر، تقرر نقلي إلى الإشراف المصرفي». (وإن كان القرار قد جاء في إطار ترقية).
وفي حديثنا، أخبرني إستريلا أن اهتمامه بالقدرة التنبئية لأسعار الفائدة يعود إلى طفولته في سان خوان، عاصمة بورتو ريكو، حيث ارتاد مدارس كاثوليكية. وقال: «كانت مدرسة الرياضيات راهبة، وكانت تتولى في الوقت ذاته مسؤولية برنامج الموسيقى. وكانت بيننا علاقة شديدة التناغم».
وقد نال درجة البكالوريوس في الفلسفة من جامعة كولومبيا. وأبدى إستريلا اهتماماً خاصاً بلودفيغ فيتغنشتاين، والذي ينتمي إلى نمط من الفلاسفة يعشقه أصحاب العقول ذات الميول الفنية. وبعد ذلك، نال درجة الماجستير في الرياضيات من جامعة بورتو ريكو ودرجة الدكتوراه في الاقتصاد من جامعة هارفارد.
عام 2008، غادر الاحتياطي الفيدرالي، وتولى التدريس داخل معهد رينسيلار للعلوم التطبيقية في نيويورك، حتى عام 2018، عندما تولى منصباً فخرياً.
وفي حديثنا، سألت إستريلا عن رأيه في الزيادة القوية في معدلات الفائدة من جانب الاحتياطي الفيدرالي: قال: «هذا نهج صعب للغاية، سواء كان هناك أمر ضروري عمله للسيطرة على التضخم. لا أعرف إذا كان ما يفعلونه ضرورياً، لكن شعوري الداخلي يخبرني أنهم يبالغون في إجراءاتهم».
يذكر أن حوالي ثلاثة أرباع المهن في الولايات المتحدة أصبحت أكثر «ملاءمة للأفراد الأكبر سناً» بين عامي 1990 و2020. ومع ذلك، فإن كثيرا من الوظائف الجديدة شغلها الشباب، تبعاً لورقة عمل نُشرت على موقع المكتب الوطني للبحوث الاقتصادية في سبتمبر (أيلول).
وذكر القائمون على الدراسة، دارون أسيمولغو، من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، ونيكولاي سوندرغارد، من جامعة آرهوس الدنماركية وأندرو جيه. سكوت من كلية لندن لإدارة الأعمال: «تولى كثيرا من هذه الوظائف الملائمة لكبار السن، الإناث وخريجو الجامعات، لأن الخصائص المهنية التي يفضلها العاملون الأكبر سناً (مثل المرونة والعمل المكتبي والمتطلبات الأقل إرهاقاً، إلخ) تروق كذلك لهاتين الفئتين».
الشرق الاوسط + «نيويورك تايمز»