السياسيون ودموعهم أو نظرات في العبرات
كان مؤثرا مشهد لولا داسيلفا باكيا في حفل تنصيبه رئيسا لعهدة ثالثة، وطائر فينيق منبعثا من رماد حرائق التنكيل والتغييب التي استهدفته بها قوى الرجعية البرازيلية. قطع لولا خطابه لأن الدموع غلبته لما ذكر «العاطلين عن العمل ممن يقفون قرب الإشارات الضوئية في الشوارع رافعين لافتات تحمل عبارة تصيبنا بالخزي جميعا: من فضلكم ساعدوني بما تستطيعون». كان مشهدا نادرا لا يكاد يكون له شبيه في عالم السياسة. إذ لم يسجل لنا التاريخ المعاصر، في باب ما يمكن أن يسمى «دموع الساسة والحكام»، إلا بضعة مشاهد، مثل: عبارات جيمس بيكر العبرى (أي الدامعة) أثناء تأبينه لصديق عمره جورج بوش الأب؛ ودموع التأثر التي بدت على منداس فرانس (السياسي اليساري الذي رأس مجلس الوزراء الفرنسي لسبعة أشهر في منتصف الخمسينيات) فزادته في حفل تنصيب ميتران في مايو 1981 نبلا على نبل؛ ونظرات مارغريت تاتشر وعبراتها من خلف زجاج نافذة السيارة وهي تفارق 10 داوننغ ستريت الفراق الأخير ذات يوم من نوفمبر 1990. كما شوهد الملك الحسن الثاني باكيا بحرقة أخاه الأصغر الأمير عبد الله، والد الباحث الأكاديمي هشام العلوي. أما بورقيبة، فنعلم أن من المؤرخين من يرى أن مشاهد البكاء في بعض خطبه كانت مفتعلة ومقررة سلفا، نظرا لتجربته في التمثيل المسرحي ولاهتمامه بعلم النفس التحليلي كمادة فرعية أثناء دراسته للحقوق والعلوم السياسية في باريس. ولكن حتى إن صح هذا، فهو جانب واحد من الصورة. أما الجانب الآخر فهو أن بورقيبة كان يبكي بصدق كلما ذكر أمه، كما بكى بعفوية واضحة عندما ذكر في محاضراته في معهد الصحافة وعلوم الإخبار كيف أن والده كان من رجال منطقة الساحل الذين رفضوا الرضوخ لإجراءات الجباية التعسفية التي كانت تحكم على الفلاحين بالفقر الدائم حتى تملأ خزينة الباي بالخيرات المنهوبة، فانتقم منهم العساكر ضربا مبرحا بالفلقة قبل وضع برادع الحمير على كواهلهم قصد إهانتهم وتحقيرهم. وكان دأب عساكر الباي، في الأزمنة التي سبقت الاحتلال الفرنسي، أن يغيروا بالتحالف مع بعض قبائل البدو على الأهالي والفلاحين وينتزعوا منهم محاصيلهم وأملاكهم وحلي نسائهم.
كما أذكر أني شاهدت بورقيبة على التلفزيون يبكي في مجلس عزاء قريبه (الوزير) الهادي خفشّة. وروى الأستاذ محمد مزالي أن بورقيبة استدعاه على عجل هو ومحمد الصيّاح أوائل الثمانينيات وقال لهما، والعبرة تخنقه، إنه حزين مصدوم لأنه سمع للتو في الإذاعة أن عشرات آلاف المواطنين لا يزالون يسكنون في الأكواخ، بينما كان الظن عنده أن برنامج إزالة الأكواخ وتعويضها بمساكن شعبية قد استكمل منذ سنين، ثم أمرهما بمراجعة الميزانية العمومية لاستكمال البرنامج قبل نهاية العام. وهذا دليل إضافي على أن جلّ بكاء بورقيبة، إن لم يكن كله، قد كان عفويا صادقا. إذ ليس من العقل ولا العدل أن يوصم البكاء في مواقف الحزن وفي المجالس الخاصة، بعيدا عن أعين الجمهور، بأنه من فعل التذاكي السياسي والإخراج المسرحي.
وكل ما سبق دليل على عدم صحة القول بأن قاموس السياسة لا يتسع إلا للأنانية والكذب والغدر وطلب السلطة لمجرد إشباع شهوة التسلط. بل إن في السياسة، كما كتب الأستاذ مزالي مرارا، متسعا للصدق وعلو الهمة. كما أن من الساسة، على ندرتهم، من يبقى ثابتا على المبدأ حريصا على خدمة الصالح العام، مقدما مصلحة الأمة على مصالحه الشخصية أو الحزبية والعائلية.
كنت في العاصمة السنغالية داكار لما أتاها لولا في فبراير 2011 للمشاركة في المنتدى الاجتماعي العالمي. كان قد غادر الحكم للتو محترما محبوبا وأكثر شعبية من ذي قبل. وجّه التحية للثورة الشعبية العربية في تونس ومصر، وقال إن الآمال في انبثاق عالم جديد لم يتم إحياؤها في أمريكا اللاتينية فقط، بل وعلى وجه الخصوص في شوارع تونس والقاهرة. كما أذكر أن لولا شرح، على هامش قمة العشرين في لندن عام 2009، أن سبب أزمات النظام العولمي النيوليبرالي المتوحش هو أنه صار ضربا من السحر الذي يحول العلامات والومضات الإلكترونية على شاشات الكومبيوتر إلى أرباح وثروات لا يتم في مقابلها تقديم أي خدمة ولا إنتاج أي سلعة ولا حتى مسمار أو برغي أو حذاء.
القدس العربي