حكومة نتنياهو الفاشية عَرَض للصهيونية كحركة استعمارية استيطانية
منذ الإعلان عن تشكيل الحكومة السادسة لزعيم اليمين الإسرائيلي ورئيس حزب "الليكود" بنيامين نتنياهو، في 29 كانون الأول/ ديسمبر الماضي، وأدائه اليمين الدستورية وتنصيبه رئيساً للحكومة الإسرائيلية الأكثر تطرفاً، أصبحت "الفاشية" كلمة مفتاحية شائعة ومتداولة بكثرة لوصف طبيعة حكومته، لكن الاقتصار على وصف حكومة نتنياهو بالفاشية ينطوي على مغالطة واضحة رغم وجاهته، ذلك أن صفة الفاشية الإسرائيلية تحجب حقيقة أكثر جوهرية في الحالة الفلسطينية، فالفاشية سمة لا تعدو عن كونها عَرَضاً لجوهر الصهيونية كحركة استعمارية استيطانية.
تشير الفاشية تاريخياً إلى تيار سياسي وأيديولوجي من أقصى اليمين، ظهر في أوروبا في العقد الثاني من القرن العشرين، يستند إلى نزعة قومية عنصرية تُمجّد الدولة إلى حدّ التقديس. وقد تطور فهم الفاشية في القرن الحادي والعشرين مع صعود الحركات اليمينية والشعبوية المتطرفة، باعتباره أحد أشكال القومية المتطرفة لمواجهة ضعف وهشاشة الروح الوطنية. وتتجسد الفاشية من خلال مناهضة الديمقراطية الليبرالية، وحقوق الإنسان، والتعددية الثقافية.
وقد تنامى الحديث عن الفاشية بعد هجمات 11 أيلول/ سبتمبر 2001 في الولايات المتحدة الأمريكية، وسرعان ما تفشى مصطلح الفاشية في أوروبا وبقية العالم، وغدت الفاشية الكلمة الأكثر شيوعاً وانتشاراً إبان حقبة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب. وفي المستعمرة الاستيطانية اليهودية التي تسمي نفسها "إسرائيل" أصبحت كلمة "الفاشية" ثيمة ثابتة في النقاش السياسي مع صعود تيار اليمين عقب عودة حزب الليكود بزعامة بنيامين نتنياهو إلى الحكم عام 2009.
إن وصف إسرائيل بالدولة الفاشية من قبل مفكرين ومؤرخين إسرائيليين ليس بالجديد، ويعد المؤرخ الإسرائيلي الراحل البروفيسور زئيف شترنهل أحد أهم المختصين بدراسة الفاشية، وهو لم ينفك يحذر في كتبه ومقالاته من انحدار إسرائيل نحو الفاشية منتقداً نظرية المناعة الإسرائيلية. وقد حذر من أن العقلية الفاشية الإسرائيلية هي العقلية التي يمثلها بنيامين نتنياهو، لكن شترنهل يقول إن نتنياهو لم يخترع أي شيء، فالقوميون المتعصبون على أنواعهم كانوا دائما بحاجة إلى عدو، وقبل أي شيء لعدو في الداخل.
وهو يستند إلى كارل شميت الذي يحدد السياسي بمحدد تعريف الصديق والعدو، فالفاشية حسب شترنهل أيديولوجيا لا نظام حكم، فهي تعتبر "القومية" وليس الإنسان؛ الكيان الأسمى والأكثر طبيعية، وفي سبيل الحفاظ على تفوق "القومية" تحارب الفاشية قيم التنوير والديمقراطية والليبرالية وحقوق الفرد والإنسانية العالمية، ذلك أن كل القيم السابقة تضع الفرد الانساني في المركز، الأمر الذي يضر بتفوق القومية. فبحسب الفاشية فإن الديمقراطية لا تعبر عن مجموعة من القيم، بل هي مجرد تقنية تشريعية فقط، والثقافة كلها لا تسعى إلا لتقوية "القومية"، لذلك يجب تجنيدها من أجل فرض الفاشية، فالعنصرية والعنف، وكافة أشكال القمع ما هي إلا أعراض جانبية لتطبيق الأيديولوجيا الفاشية.
تكاثر الحديث عن صعود الفاشية في إسرائيل عقب تشكيل حكومة نتنياهو اليمينية في الأوساط اليسارية الإسرائيلية، وكأن المشكلة مع اليمينية الصهيونية فقط، وليس في صلب الحركة الصهيونية وتياراتها الأساسية كحركة استعمارية استيطانية تهدد الوجود الجماعي للسكان الفلسطينيين الأصلانيين، إذ ينطوي وصف الفاشية في هذا السياق على مناهضة ديمقراطية مفترضة وقمع الأصوات اليهودية الداخلية، وهو نقد عرَضي لا يتعارض مع كون إسرائيل منظومة استعمار استيطاني تقوم على الاحتلال والحرب والتفوق العرقي والفصل العنصري، ولا يمس يهودية الدولة.
لعل تنامي الحديث عن الفاشية في إسرائيل جاء نتيجة صعود تيار فاشي على أسس دينية، حقق نجاحاً في الانتخابات الأخيرة التي جرت في الأول من تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، إذ ضمت حكومة نتنياهو شركاءه من الأحزاب الحريدية "شاس" و"يهدوت هتوراة" وتيار الصهيونية الدينية؛ صاحب التوجهات الفاشية الذي يضم أحزاب "الصهيونية الدينية" و"عوتسما يهوديت" و"نوعام"، ولذلك فإن الفاشية التي قامت على أسس علمانية لم تعد تثير الرعب في الزمن والمخيال العلماني. فالحكومات الفاشية اليمينية التي تستند إلى البشر لم تعد كافية لإثارة الخوف والقلق، وإذا استندت إلى الله فتلك هي الطامة والكارثة، وبهذا تصبح الفاشية اليمينية معتدلة في مواجهة فاشية دينية متطرفة، وتلك هي أسطورة العلمانية المفضلة، بحيث تحول نتنياهو فجأة إلى شخصية معتدلة يطالبها المجتمع الدولي بلجم الشخصيات المتطرفة في حكومته أمثال إيتمار بن غفير وتسلئيل سموتريتش.
لا يختلف نتنياهو عن سموتريتش وبن غفير في أطروحاته الجوهرية، وهم جميعاً لا يختلفون عن أسلافهم المؤسسين للاستعمار الاستيطاني الصهيوني الذي يقوم على المحو والإبادة. فالمؤرخ الإسرائيلي شلومو زند يذهب إلى أن إسرائيل هي دولة شر تتجاوز مفهوم الفاشية، ففي مقالته "هل تدهورت إسرائيل نحو الفاشية؟"، يتساءل: هل تتدهور إسرائيل إلى الفاشية أم تبدأ بأن تشبه دولة الشر؟ هذا السؤال ليس جديا ولا حتى سخيفا، فحتى لو ظهرت هنا وهناك حالات مس بحرية التعبير، وحتى لو بات التركيز على الذات الاثنية اليهودية ظاهرا في كل يوم، فظا ومنفرا أكثر، فهو ليس فاشية وإسرائيل ليست دولة شر أكثر مما كانت في الماضي.
فهل في حرب 1948 كانت حالات مس بالأبرياء غير اليهود أقل مما هي اليوم؟ هل الجريمة الفظيعة لـ49 من سكان كفر قاسم في 1956 وقعت تحت حكم اليمين؟ هل مواقف المجموعات السكانية التي لا تريد أن تستقبل في داخلها العرب تختلف جدا عن مواقف الكيبوتسات، التي منذ بداية الاستيطان الصهيوني رفضت أن تقبل حتى ولا عربي واحد؟ وهل اليسار الصهيوني الذي أقام الدولة، واضطر حسب قرار الأمم المتحدة لمنح المواطنة المتساوية لمن احتلهم من العرب في 1948، ولم يفرض عليهم على مدى 18 سنة حكما عسكريا، ألغى عمليا المساواة المدنية؟ وهل يمكن أن نشبه جدية أعمال المس بالتعددية الليبرالية اليوم بالمجال الضيق للتعددية والتسامح تحت حكم دافيد بن غوريون في الخمسينيات؟ هل سلوك اليسار الصهيوني في هضبة الجولان يختلف مبدئيا عن سلوك اليمين الصهيوني في الضفة؟ وهل حقا يختلف أليئور أزاريا عن أبراهام شالوم، رئيس المخابرات الذي أصدر أمرا بقتل فلسطينيين جريحين ومحيدين بالدم البارد في قضية خط 300؟
إن الخوف من أحد تمثيلات الفاشية الإسرائيلية هو إمعان في حجب لطبيعة الصهيونية، فلا فرق جوهريا بين نتنياهو وبن غفير وسموتريتش، ولا فرق بين يميني ويساري وديني في الحالة الصهيونية الاستعمارية، فنتنياهو يتبنى رؤية بن غفير وسموتريتش في أن الوقت قد حان للانتقال إلى ما يسمى "المرحلة الحاسمة" في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، وذلك بتخطي الوضع الراهن إلى "سلام دائم".
وحسب الكاتب الإسرائيلي أميتاي بن أبا في مقالة بعنون "عقيدة الإبادة الجماعية الجديدة في إسرائيل"، فإن تصورات حل نهائي للقضية الفلسطينية على طريقة سموتريتش وأمثاله، مأخوذة من سفر يشوع، حيث يقوم الإسرائيليون الغزاة بتنفيذ عملية إبادة ضد الكنعانيين الأصليين، حتى لا تُترك روح واحدة تتنفس، باقتباس توصيف الحاخام موسى بن ميمون. وبحسب المدراش، كانت هناك ثلاث مراحل لهذه العملية، أولاً، أرسل يشوع إلى الكنعانيين رسالة نصحهم فيها بالفرار، ثم، يمكن للذين بقوا أن يقبلوا بمكانة المواطنة الدنيا وباستعبادهم، وأخيراً، إذا قاوموا، سوف تتم إبادتهم. وقدم سموتريتش هذه الخطة علناً باعتبارها التحول المطلوب إلى المرحلة الحاسمة من الصراع، وإذا لم يهرب الفلسطينيون ورفضوا القبول بمواطنة أدنى، كما يفعل أي شخص ذو كرامة، "سوف يعرف جيش الدفاع الإسرائيلي ما الذي يجب عمله"، كما يقول.
يجادل البروفيسور الإسرائيلي أمنون راز بأن "مصطلح الفاشية، ليس المصطلح الصحيح لوصف إسرائيل، فدولة عنصرية ودولة نظام أبارتايد والعديد من المصطلحات الأخرى من الممكن أن تفي بالغرض أكثر من مصطلح فاشية، فما يحصل اليوم، هو أن الدولة لم تعد تخفي كونها دولة الشعب اليهودي فقط، بالإضافة إلى أنها لم تعد تظهر أي اهتمام بأن تكون أو تبدو كدولة ديمقراطية. فإسرائيل ليست دولة ديمقراطية بشكل قاطع، هي دولة إثنوقراطية، فاليهود يحتكرون كافة الحقوق التي من المفروض أن تتوفر للجميع. والوضع الذي نعيشه اليوم يعد أصعب من نظام فاشي، وفي حال السؤال عما إذا كانت إسرائيل تتحوّل إلى دولة فاشية، أنا أفضل أن يكون السؤال هل من الممكن أن لا تكون إسرائيل دولة فاشية؟". وحسب راز، "الأمر لا يقتصر على الدولة فالمجتمع الإسرائيلي، أصبح فاشياً، والسؤال كيف من الممكن أن نخرجه من وحل العنصرية المطلقة التي أصبح يحيا بها".
في سياق الجدل الداخلي في إسرائيل ثمة خلاف في تعريف دولة إسرائيل، هل هي دولة فاشية أم أنها دولة الشر المحض. فالمفكر الإسرائيلي جدعون ليفي يتبنى الوصف الأخير، ففي مقالة بعنوان "دولة العمل الشيطاني"، يقول: "بعد أن قلنا قومية متطرفة وعنصرية، كراهية العرب والاستخفاف بحياتهم، عبادة الأمن ومقاومة الاحتلال، المسيحانية والظهور بمظهر الضحية، يجب اضافة صفة أخرى، التي بدونها لا يمكن تفسير سلوك نظام الاحتلال الإسرائيلي: الشر، الشر الخالص. الشر السادي، الشر من أجل الشر، وأحيانا يكون هذا هو التفسير الوحيد. وقد أعطته إيفا ايلوز علامات، فهي تعتقد أن المجموعة القومية هي مصدر الشر: إنها تجد "شبه عائلي"، حسب مفهوم لودفيغ فيغنشتاين بين الاحتلال الإسرائيلي وبين أنظمة الشر في التاريخ. هذا الشبه لا يعني أن إسرائيل نازية، بل ولا فاشية، ومع ذلك فهي عضو في نفس العائلة الفظيعة، عائلة دول الشر. فالشر الذي تنسبه ايلوز لإسرائيل لا يمكن أن يحدث في أي مكان، وله جذور سياسية ودينية واجتماعية مغروسة عميقا في المجتمع الإسرائيلي".
في حقيقة الأمر فإن وصف إسرائيل بدولة فاشية أو دولة شر لا يمكن أن يستقيم دون فهم الصهيونية كحركة استعمارية استيطانية كما أطرته الدراسات الفلسطينية، حسبما يجادل كل من إيلان بابيه وأوري ديفيس وتمار يارون في مقالة مشتركة بعنوان "الحق في الميراث والعودة مفاتيح السلام في فلسطين"، فالتعامل مع الصهيونية كحركة استعمارية استيطانية هي المقاربة الأكثر دقة وموضوعية، وهو تعريف مفاهيمي قديم لقضية فلسطين، اقترحه لأول مرة مكسيم رودينسون في عمله الأساسي المهم "إسرائيل: دولة كولونيالية استيطانية"، وكذلك فعل باحثون ومفكرون فلسطينيون.
ولأعوام، اعتُبرت رؤية "الاستعمار الاستيطاني" موقفا أيديولوجيا، لكن الأبحاث الفكرية الجديدة أضفت الصلاحية الآن بشكل صارم على تأطير الصهيونية كحركة استعمارية استيطانية من منطلقات أكاديمية متينة. ويُبرز هذا التطور الجديد الحاجة إلى مناقشة الصهيونية وطبيعتها باعتبارها السبب الأساسي للصراع المستمر في فلسطين التاريخية، فقد كان الاستعمار الصهيوني الاستيطاني نتيجة لهروب المستوطنين الأوروبيين من الاضطهاد في أوروبا ووصولهم إلى الأراضي التي يسكنها أناس آخرون، والتي أراد المستوطنون أن يجعلوها وطنهم الجديد. وكان العائق الرئيسي في طريق قيامهم بإنشاء "أوروبا" بعيدا عن أوروبا التي لم تكن تريدهم هو إزالة السكان الأصليين.
ولفت الباحث الراحل، باتريك وولف، الانتباه إلى المنطق الذي يرشد الحركات الاستعمارية الاستيطانية مثل الصهيونية عندما تواجه سكاناً أصليين، وأكد أنها تكون مدفوعة، في مثل هذه الحالة، بمنطق عرّفه بأنه "القضاء على السكان الأصليين"، وقد أصر وولف على النظر إلى الاستعمار الاستيطاني لا كحدث، وإنما كعملية مستمرة.
خلاصة القول، أن حكومة نتنياهو الفاشية عَرَض للصهيونية كحركة استعمارية استيطانية، وهي استجابة لمجتمع إسرائيلي فاشي، فوصف إسرائيل بدولة فاشية أو دولة شر هو نتاج قراءة تجزيئية، فالفاشية والشر هما عرضان لجوهر الصهيونية باعتبارها حركة استعمارية استيطانية. والإصرار على صفة الفاشية وحدها يشير إلى عملية تضليل تمهد الطريق للتعامل معها كدولة طبيعية لديها إشكالات محلية تتعلق بمعاداة الديمقراطية ومناهضة حقوق الإنسان وحقوق الأقليات، وهي سمات مشتركة مع أنظمة عالمية انحدرت نحو الفاشية، بل إن الإصرار على صفة الفاشية هو جواز عبور لاندماج المستعمرة الصهيونية في المنطقة العربية التي هي محكومة بأنظمة غير ديمقراطية وتوصف بالفاشية، وهو ما يهمش مقاربة الطبيعة الصهيونية كحركة استعمارية تقوم على المحو والإبادة للسكان الأصلانيين ويجعل من التطبيع مسألة طبيعية.
عربي 21