معالم في مسار دبلوماسي
لما أخطأنا الصواب لو لقبناه بسيد الدبلوماسية الهادئة والصارمة في الوقت نفسه، ونحن نعيش زمنا نحتاج فيه إلى دبلوماسية تمثل هذا المزيج. جوزيب بوريل، أحد أنسب القادرين على استيفاء هذه الشروط، بل التحلي بهذه الشيم. ولئن كان بوريل يتحلى بشيم ويجسد قيما، فيمكن القول إن مساره السياسي هو الذي أكسبه إياها، إلى حد كبير. آمن بوريل بالتقدم والعدالة الاجتماعية فانخرط في الحزب الاشتراكي الإسباني، الذي من شيمه بدوره أن حمل، اسما والتزاما، مشعل العمل والعمال. فللحزب الاشتراكي العمالي الإسباني شاهد تاريخي على صورة مصغرة لعمق التزام «رفاق الدرب» من أجل نصرة القضايا الاجتماعية الكبرى من عدالة وإنصاف وتقدم ورفاهية عيش.
بوريل يعيدنا إلى أيام كانت الاشتراكية الدولية لا تزال ساطعة بنجومها، فهو من الأبناء السياسيين المباشرين لفيليبي غونزاليس، وهو قطب من الأقطاب الذين عركتهم التجارب وحنكتهم السنون، في محيط لا يزال فيه المحنكون والمجربون يدعمون أحجار الزاوية التي أسسها «الرفاق» (والرفيقات). فكيف ننسى أن محيط غونزاليس، هو محيط فرانسوا ميتران نفسه، محيط اليسار الموحد أو التعددي، لكن غير المنقسم. من المهم، بل من الأساسي، التذكر بأن للتكوين السياسي الوطني، أثرا بارزا في المسار الدولي، وأن واحدا ممن كونته جذور الفكر السياسي العقائدي وصل إلى الممثلية الأعلى للمجموعة الأوروبية، وهو أمر وازن بامتياز. مزيج من العزم والحزم لكن أيضا من الهدوء والتؤدة، لرفع صوت أوروبي في البحث عن وضوح وشفافية ولسان مشترك، يتجسد، في شخص بوريل، عبر تجربة اشتراكي مقتنع بمصير عقيدته دوليا. كثيرا ما نتحدث عن تدويل الأزمات، لكن لا نتحدث عن تدويل الأفكار.. حينها يسقط من الاعتبار الوجه الآخر من التدويل، وتحديدا هنا، التدويل الذي تمثله الدولية الاشتراكية.
تكوّن المهندس المدني بوريل، الأستاذ في جامعة كومبلوتنسي الشهيرة، في «معمل الأفكار» وثقّف حسه السياسي بعبوره أبرز مراكز المسؤوليات والقرارات، لقد منحته فرصة قيادة القائمة الاشتراكية في الانتخابات الأوروبية عام 2004 خبرة في مجال أرخ لما سيكتب له أن يصبح لاحقا مجال خبرة أثبت به مكانته الأوروبية والعالمية: الشؤون الخارجية.
من وزارة الخارجية الإسبانية سنة 2016 إلى الممثلية السامية للشؤون الخارجية للاتحاد الأوروبي حالياً ، طابق بوريل بين خلفيته الجامعة بين السياستين المحلية والخارجية ومسار شبه دبلوماسي، إذا اعتبرنا قيادته لمواقف أوروبية لبنات أعادت الأمل بتوحيد صفوف المجموعة، بحنكة ولباقة جديرتين بوضع الدبلوماسية الأوروبية على الواجهة، قادرة على أن تزاحم في النهاية، حسب خبير العلاقات الدولية الفرنسي هوبرت فدرين، توجهات أمريكية تقليدية لا تنتوي صاحبتها المضي بها قدماً بشكل أبدي، على اعتبار أن مشكلة أمريكا الرئيسية «مشكلة الصين ومنافستها لها في زعامة العالم». لقد استحق جوزيب بوريل وقفة لأن الوقت حان لنتوقف فعلا عند مسارات مسؤولين رفيعي المستوى، يمكن لهم إعادة المشروع الأوروبي إلى مقصده البدائي، الذي من أجله رأى النور: تحقيق السلام بعد أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها. لكن قبل أن يتحقق ذلك ستدور عقارب الساعة، فلم تفتح السياقات الدولية الراهنة الباب واسعا أمام اعتماد متغيرات البرمجية الدبلوماسية التي قد تغير الوجهة. لكن ما أبعد أن يكون الأمر مستحيلاً، لذا نتفاءل بالخير.
القدس العربي