اليوم الدولي للتعليم: العلم أساس الحضارة
لطالما شغلت مسألة التعليم بال رواد النهضة الحديثة في العالمين العربي والإسلامي بعد أن وصلوا إلى قناعة بأن بناء الحضارة لا يتحقق إلا بمستويات عليا من العلم الذي هو أساس التقدم والرقي. وقد ناقش هذه المسألة عدد من هؤلاء من بينهم عبد الرحمن الكواكبي الذي قال في مقاله: «الاستبداد والعلم» أن أكثر ما يخشاه المستبِدّ الارتقاء بالعلوم، وخصوصاً ما يتعلق بالحكمة والفلسفة العقلية، وحقوق الأمم وطبائع الاجتماع، والسياسة المدنية، والتاريخ المفصّل، والخطابة الأدبية لما لها من أثر في توسيع المدارك وتغذية العقول وتنويرها وتعريف الإنسان بحقوقه وكيف يطالب بها وينالها.
وسعى رفاعة الطهطاوي لتطوير مشروع التعليم في مصر من خلال عضويته الدائمة بـ «قومسيون المدارس» وهو المجلس الذي كان ينظر في السياسة العليا للتعليم ويضع النظم والقوانين والبرامج للمدارس. كما حث العلّامة محمد إقبال وعلماء الدين من كافة المدارس الفقهية الإسلامية على ضرورة تطوير مناهج التعليم في العالم الإسلامي وربطها بهويته وثقافته. وبرغم مرور أكثر من قرن على هذه النقاشات ما يزال التعليم موضوع سجال متواصل، برغم صعود نسبته وتراجع الأمية، وبرغم بناء صروع علمية شامخة في أغلب البلدان. ومن تجليات الأزمة استمرار النقاش حول تعليم المرأة والسماح لها بالالتحاق بالجامعات محتدما. وما تزال هناك فجوة واسعة بين مستويات العلم في الدول الصناعية وبقية أنحاء العالم ومنها الدول العربية والإسلامية.
مع ذلك يعاني الجانبان من مشاكل في هذه الجوانب، خصوصا أن توسع دوائر العلم في الغرب صحبتها نقاشات إيديولوجية وفكرية كثيرا ما انحرفت عن المنطق وتحوّلت إلى ممارسات أخلاقية غير لائقة. كما أن العلم الذي يُفترض أن يساهم في إعمار الأرض بتنمية الإنسان وتقنياته، أصبح بعض قطاعاته موجها لصناعة تكنولوجيا تهدد أمن العالم واستقراره، وتضر البيئة وتشجع انتشار الأمراض وتدفع للاستغلال وتوسع الفجوة بين من يملك والمعدمين من البشر. هذا يعني أن العلم الحديث أدى لقيام حضارة غير متوازنة، يرجح فيها التطور العلمي على بقية الجوانب الإنسانية ولا توازي هذا التطور نهضة قيمية او أخلاقية توفر كوابح فاعلة لاندفاع البعض نحو المادية المفرطة وتشجع أنماط الاستهلاك غير المحدود. وليس السجال المتواصل حول البيئة منفصلا عن التطور العلمي والتكنولوجي فهما مرتبطان تماما. وبرغم البحث عن وسائل إنتاج وطاقة لا تضر البيئة إلا أن الواقع مختلف تماما.
يحل غدا (24 يناير) اليوم الدولي للتعليم الذي أقرته الجمعية العمومية للأمم المتحدة احتفاءً بالدور الذي يضطلع به التعليم في تحقيق السلام والتنمية. تقول منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (يونسكو) «أن هناك 258 مليون طفل وشاب غير ملتحقين بالمدارس؛ وهناك 617 مليون طفل ومراهق لا يستطيعون القراءة والكتابة والقيام بعمليات الحساب الأساسية؛ وفي أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، يقل معدل إتمام المرحلة الدنيا من التعليم الثانوي عن 40٪، ويبلغ عدد الأطفال واللاجئين غير الملتحقين بالمدارس زهاء 4 ملايين نسمة. ومن ثم فإن حق هؤلاء في التعليم يتم انتهاكه، وهو أمر غير مقبول».
ونظرا للأزمات التي تواجه مؤسسات التعليم في العالم، عقدت الأمم المتحدة بمقرها في نيويوك في سبتمبر الماضي «قمة تحويل التعليم» للتداول في الأزمات المرتبطة بالتعليم ضمن محاور أربعة: المساواة والشمول والجودة والملاءمة.
ونظرا لأهمية القضية فقد أصبحت موضع اهتمام عالمي غير مسبوق. وكان أمين عام الأمم المتحدة، انطونيو غوتيريش شدد في هذا الصدد على أن «التعليم يمثل حجر أساس لبناء مجتمعات مسالمة ومزدهرة ومستقرة» محذرا من أن «تقليص الاستثمار يضمن فعليا حدوث أزمات أكثر خطورة في المستقبل».
في العالمين العربي والإسلامي هناك نهم للعلم والتطور المرتقب منه. وبرغم وجود توجهات واسعة لطلب العلم الديني وانتشار الجامعات والمعاهد والحوزات التي توفر التعليم الديني، إلا أن البوصلة ما تزال مضطربة، وما يزال البعض ينظر للغرب أنه مصدر العلم وصاحب القوامة عليه حتى في الجوانب الأخلاقية. وبرغم أن الإسلام طرح صفة سامية للعلم بربطه بالإيمان، ما تزال مقولة ضرورة فصل العلم عن الدين سائدة. قال تعالى: إنما يخشى الله من عباده العلماء. أي أن العلم الحقيقي يؤدي إلى أمور عديدة:
أولها تعميق وعي الإنسان الذي اكتسب العلم، ثانيها: امتلاكه مستوى رفيعا من التواضع والتخلي عن التكبر والاستعلاء بعد أن يكتشف تواضع مستوى علمه «وفوق كل ذي علم عليم» ثالثها: أن استيعاب سعة العلم تؤكدها ظواهر عديدة من بينها استمرار الكون في التوسع، وأن أحدا لا يستطيع ادعاء بلوغ ذروة العلم، رابعها: أن هذه الحقائق يفترض أن تدفع العالم للإيمان بوجود خالق لهذا الكون يدبر شؤونه وفق القوانين التي لم يكتشف العلم الحديث منها إلا نزرا يسيرا (وما أوتيتم من العلم إلا قليلا). صحيح أن آليات العلم يفترض أن لا تنتمي لثقافة أو دين، ولكن جوهر العلم ينتمي للكون المرتبط بالخالق والخاضع لإرادته من خلال السنن الكونية.
هذا يعني أن الكون مسيّر وفق أنماط علمية تزداد توسعا، وأن الإنسان سيبقى لاهثا دائما للوصول إلى آفاق أوسع من دوائر العلم. وللتدليل على ارتباط العلم بالإيمان أن الغالبية الساحقة من علماء المسلمين في مجالات الفلك والرياضيات والطب كانوا علماء أيضا في الفلسفة والمنطق والفقه، ورأوا في العلم الطبيعي طريقا لتعميق الإيمان لأن ذلك العلم يؤكد وجود الخالق بشكل قطعي.
بالعلم تُصنع الحضارات، وبدونه يسود الجهل والتخلف وينتشر الظلم. فالعلم حصن للإنسان لأنه يوازي في قوة دفعه وآثاره ما يمتلكه الآخرون من أدوات القوة المادية. ولهذا اضطُهد العلماء من قبل البلاطات الملكية عبر التاريخ، ولطالما أحرقت كتبهم، تارة من السلطان السياسي وأخرى من السلطان الديني. وليس صعبا الربط بين الحضارة والعلم، فهل كانت الحضارة الفرعونية إلا مرتبطة بذلك؟
أليس العلماء حائرين في تفسير بناء الأهرامات؟ أليسوا جاهلين بالكثير من الظواهر الإعمارية والمنتجات الصناعية التي بقي بعض آثارها حتى اليوم يتحدى العلماء والباحثين؟ وهل قامت الحضارة الإسلامية إلا على أكتاف العلماء، سواء الدينيين ام الطبيعيين؟ وإذا كان هناك من يسخر من التراث الإسلامي في جانبه العقيدي والديني والسياسي، فإن أحدا لا يستطيع أن يقلل من شأن الجانب العلمي من تلك الحضارة. صحيح أن ما يسمى «العصر الذهبي» تزامن مع تخلف سياسي واسع وهيمنة الحكام العباسيين على الأمة، ولكن ظاهرة العلم لا يمكن تجاهلها. ولا يستطيع باحث أن يتجاوز ما قدمه ابن سينا والبيروني والخوارزمي والحسن ابن الهيثم وجابر بن حيان وبقية العلماء خصوصا في الحقبة ما بين القرن السابع ونهاية القرن السادس عشر الميلادي حينما كانت دمشق وحلب والكوفة وبغداد والقيروان وقرطبة والقاهرة ومراكش وفاس هي المراكز العلمية في العالم. وبالإضافة للمنتجات الصناعية تعتبر البحوث والمؤلفات من مظاهر التقدم العلمي. ففي تلك الحقبة انكب العلماء المسلمون على كتب الإغريق وترجموا الكثير منها إلى العربية. ويعترف الغربيون أن المسلمين هم الذين نقلوا علوم الإغريق وفلسفتهم إلى أوروبا.
اليوم تتسابق الدول الكبرى للتعمق في المجالات العلمية. وتشير الإحصاءات إلى أن الصين تتصدر العالم في إنتاج البحوث العلمية الراقية، وأنها تنتج أكبر نسبة من أي بلد آخر في مجال أفضل البحوث المرجعية في العالم. بينما في العام 2000 كانت الولايات المتحدة تنتج أضعاف البحوث العلمية التي تنتجها الصين. ألا يفسر ذلك جانبا من التفوق الاقتصادي الذي تتمتع به الصين الآن؟
وبموازاة ذلك ثمة ما يشبه الإجماع على أن مستوى التعليم في بلدان مثل بريطانيا تراجع في السنوات الأخيرة. وتؤكد أرقام رسمية بريطانية أن جامعات المملكة المتحدة شهدت تراجعاً بحوالى 40 في المائة في عدد الطلبات المقدمة إليها من طلاب دول الاتحاد الأوروبي، منذ الخروج البريطاني من الكتلة الأوروبية. وهناك مؤشرات لانخفاض أعداد الطلبة الصينيين في الجامعات البريطانية لأسباب عديدة.
القدس العربي