لغة عربية من صلب الأمة وليس الدولة
القانون الاسترشادي العربي للنهوض باللغة العربية، الذي عرضته أمانة المجلس الدولي للغة العربية، على المختصين والمهتمين بشأن اللغة العربية، يحتاج حقيقة إلى إثراء وتوسيع الحديث حوله، إلى أن تصبح اللغة العربية معتمدة لدى العرب في حياتهم العلمية والعملية، وفي هذه المقالة نعرض لتقييم تاريخي وحضاري لحالة العربية.
اللغة العربية تعاني أول ما تعاني من غياب وحدة سياسية عربية، أي سلطة واحدة عليا تعبر عن المصالح العليا للعرب، كأفضل سبيل لتوحيد لغة الخطاب وتحديد الجِهة المُخاطبَة وقدرة المُخاطَب على الفَهْم والإفْهام، فقد ولَّى الزمن المناسب للحديث عن العربية كلغة تمييز عن الاستعمار وعن الغرب، وأنها أفضل وسيلة للنزعة القومية العربية الناشئة وأفضل إمكانية لبناء الأمة والدولة على السواء. فقد قامت النهضة العربية الحديثة والمعاصرة، وكانت اللغة أحسن مقومتها لنشأة الأمة وتماسكها وتوكيد خصائصها الذاتية إلى اليوم. غير أن ما ينقصنا إلى حد الساعة ليس الوحدة الكاملة لهذه الأمة، بل قيام الدولة العربية القطرية المكتملة التي تدرج اللغة العربية كلغة رسمية للبلد ولغة شرعية لممثليها والمسؤولين عليها حيال الشعب وحيال الأمم والدول في سائر العالم.
واقع العلاقات الدولية في الزمن الراهن هو توكيد الصلة الإجرائية والنفعية للغة، عندما يكون مصدرها واحدا ويشارك فيها الجميع أيضا بالخلق والإبداع وحسن التعبير والإبلاغ، والمشاركة في الإعراب عن كل جوانب اللغة ومستوياتها ومعانيها القائمة واحتمالاتها المرشحة في المستقبل. فاللغة العربية تطورت من عصر النهضة إلى عصر بناء الدول العربية، التي لم تتم لحد الآن. وإطلالة سريعة على تاريخ النهضة الغربية يؤكد من جملة ما يؤكد بناء الدول ونجاحها جرى على أساس من إعداد واستعمال اللغة، وربط شرعية وجودها باستخدامها وتداولها من قبل ممثلي المؤسسة الحكومية والهيئات العمومية، في صيغة مُحْكَمة بين اللغة الفرنسية مثلا والدولة الفرنسية، وبين اللغة الألمانية والدولة الألمانية، ليس هذا وحسب، بل بين الدولة التركية وترتيب وتهيئة لغة تركية جديدة تتجاوب أكثر مع بناء الدولة/ الأمة، التي تقتضيها الوضعية العالمية في آخر فصولها التاريخية. هناك جملة من الصيغ السياسية التي تساعد على عدم فقدان السلطات الوطنية وسيادتها، مع توكيد وترسيخ الوحدة العربية، لأن الاهتداء إلى صيغة عربية محْكَمة وراسخة، هي التي تؤمن إمكانية اللغة العربية على التعبير عن المراحل المتقدمة والمتطورة للحضارة الإنسانية المعاصرة. اللغة العربية تنتمي إلى المجال الثقافي، الذي لم يكن معروفا ومتاحا في القرون السابقة. واللغة كوسيلة تعبير لا تكف عن الاتساع والانتشار والاهتمام بها، يجب أن تتحرر بقدر الإمكان من العوائق السياسية والبيروقراطية والرسميات الإحفائية، ويبقى رائد الدول هو توفير مجالات تداول اللغة العربية وحقول معرفتها والتفكير والإبداع فيها. واليوم، هذا الإمكان صار متاحا، خاصة على صعيد وسائل الإعلام والاتصال والتواصل الاجتماعي، ناهيك عن التظاهرات والفعاليات الدولية والعالمية، على ما شاهدناه في مونديال قطر 2022.
في الزمن الفائق الذي يساعد على التخلص من الفعل السياسي بمعناه السيادي المبتذل والبيروقراطي، يجب أن تتحرر أيضا من هذا الثقل العائق لها عن الإبداع والخلق والصناعة لأنها لغة بكل مقاييس اللغة إلى حد انفرادها بعبقرية خاصة، كأن تكون لغة القرآن الذي يعطيها أبعادا عليا للتأمل والتفكير والتصور والبحث، وكأن تكون هي لغة الحضارة العربية والإسلامية التي سادت لحظة تاريخية كانت المرجع العالمي والعلمي والأممي، حضارة ساهمت فيها الأمم كافة، من آسيا وافريقيا وأوروبا، وهذا بدوره يعد حافزا رائعا لإمكانية تداول اللغة العربية بشكل أوسع وأعمق، وليس أخيرا، كأن تكون لغة المستقبل لأن العالم كله يتطلع إلى الاستفادة من المنطقة العربية لقيمة الأرض فيها والإنسان والتاريخ والدين. ولتوضيح هذه النقطة بالذات، أي تصفية اللغة العربية مما علق بها من أدران السياسة والأيديولوجيات الخائبة، وتوريطها في الاحتفاء بالنظام القائم والدعوة له، يمكن أن نسوق الفقرة التالية الواردة في النقطة الثانية من المادة السابعة تحت عنوان المجامع العربية، وجاء فيها: «تعمل الدولة، بالتعاون مع باقي الدول العربية، على إنشاء مجمع لغوي، في إطار جامعة الدول العربية، يمثل الدول العربية كافة، يُختار أعضاؤه من جميع المجامع اللغوية القائمة في كل دولة عربية بطريق الترشح بواقع عضوين في كل دولة، وتكون رئاسته دورية لمدة عامين بالتناوب بين رؤساء المجامع اللغوية في كل دولة، ويكون من أهم أهدافه العمل على توحيد القرارات، واتخاذ الإجراءات اللازمة للتكامل بين المجامع والتنسيق بينها، واهتمام بالسياسات اللغوية وبالمقررات والكفايات التعليمية وطرق تدريس مناهج اللغة العربية في الوطن العربي». واضح من هذه الفقرة، الصياغة البروتوكولية المعهودة في البيانات والقرارات السياسية التي تبني ليس على الواقع بقدر ما تعلق الأمر على ما هو مأمول ومن عالم التمنيات.
اللغة العربية تنتمي إلى عالم الثقافة وإلى الأمة العربية، أي الأمم التي تتكلم اللغة العربية، وعليه، أو هكذا يجب أن يكون الأمر، يجب أن تتحرر اللغة من ربْقة السياسة والدبلوماسية والبروتوكولات العربية المعهودة في الجامعة العربية الذي ينتظر الجميع نهايتها قريبا، لأنها خرجت عن عصرها، أو أن العصر الجديد لم يعد يناسبها، فما بالك في أن يرهن واقع وتاريخ ومستقبل العربي بمؤسسة لم تعد تحظى بأي مصداقية ولا قيمة ولا اعتبار. لا، اللغة العربية، لغة عالمية حية تحتاج دائما إلى مواكبة التطور والتواصل المستمر للعلوم على صعيد المناهج والمقاربات وتأصيل الفهم، كما على صعيد الخَلق والتَّطبيق والصّناعة، عبر تقاطع وتبادل المعرفة باللغة العربية بين العرب والأجانب، والاهتمام المشترك بها وإدراجها ضمن اهتماماتهم الإبداعية والعلمية، لأنها لغة حضارة ودين عظيم، هو آخر الديانات إلى الناس جميعا، لم يعد التفسير والتأويل خوضا في لغة آيات القرآن الكريم، بل تدبُّرا في آيات الكون وأَجْرامه وسُننه، وما تنطوي عليه العوالم النفسية والخيالية للبشر.
لم يعد العرب يعيشون لحظة النهضة العربية، بما في ذلك نهضة اللغة العربية، بل تجاوزوها وأسهموا بشكل رائع في تنمية لغة عربية حديثة منذ أكثر من قرن. وما بقي إنجازه هو توفير هذه اللغة للتواصل مع العالم وتواصل العالم مع العرب، على ما تفعل مثلا القنوات الفضائية العربية، إن في البلاد العربية أو الأجنبية.
القدس العربي