هل ما زالت مصالحة هاري مع العائلة الملكية البريطانية ممكنة؟
كان من أبرز عناوين الصحف البريطانية الصادرة مطلع السنة الجديدة استمرار ارتفاع فواتير الطاقة في المملكة المتحدة، واحتمال معاناة هذا البلد من التضخم لفترة أطول مقارنة مع دول متقدمة أخرى مثلما جاء في تقارير بنك إنكلترا، وانتخاب الجمهوري كيفن مكارثي رئيسا لمجلس النواب في الكونغرس الأمريكي وما يعترض الجمهوريين من تحديات في مجلس النواب الأمريكي، فضلا عن تطورات الحرب الروسية ـ الأوكرانية واقتراحات تزويد أوكرانيا بدبابات بريطانية وأوروبية أخرى.
وفي يوم 8 يناير/كانون الثاني، أجرت الشبكة التلفزيونية البريطانية (أي تي في) حوارا مع الأمير هاري بعنوان “هاري: المقابلة” ساعات قبل نشر سيرته الذاتية الصادمة بعنوان “سبير”. وإذا بهذا اللقاء وما حمله من تصريحات خطيرة في حق عائلته يصرف كل الأنظار، متصدّرا عناوين الصحف، ملقيا ظلاله على بقية الأخبار. فما هي يا ترى انعكاسات هذه الاعترافات في بريطانيا وعالمنا؟ من المتضرر الأكبر منها؟ وهل إنقاذ علاقة الأمير وعائلته المالكة أمر ممكن بعد التصريحات الخطيرة؟
البرنامج الأكثر مشاهدة
اعترافات هاري جريئة ومدمرة إلى حد أن صحيفة “الغارديان” البريطانية قالت، “لو كُتِب للملكة إليزابيث الثانية أن تعيش لتشهد ذلك.. لتحوّلت إلى جمهورية”! اللافت للانتباه إجماع وسائل الإعلام هنا على وصفِها بـ”القنابل”. ويا ليت القنابل موجهة لضرب معاقل قوى معادية بدلا من أقرب البشر إليه، من لحمه ودمه: عائلته المالكة. أجرى المقابلة مذيع نشرة أخبار الساعة العاشرة في شبكة “أي تي في” الإعلامي المعروف توم برادبي، وتناولت قسما من طفولة دوق ساسكس وسنوات دراسته، فضلا عن تأثير وفاة والدته الأميرة ديانا في حياته. لم تجذب هذه المقابلة أنظار البريطانيين فحسب، بل الجماهير في كل أنحاء الدنيا، فقد تم بثها في 77 بلدا في العالم، في أوروبا وافريقيا والشرق الأوسط، فضلا عن أستراليا ونيوزيلندا وهونغ كونغ وكندا والبرازيل. وفي بريطانيا وحدها حطم البرنامج رقما قياسيا من حيث المشاهدة (4.2 مليون)، لا يفوقه إلا المسلسل الوثائقي التلفزيوني الذي يتناول حياة هاري وميغان على نتفليكس الذي أصبح المسلسل الأكثر مشاهدة في المملكة المتحدة.
انعكاسات اعترافات أفغانستان
من الاعترافات المدوية التي تجاوز أثرها حدود المملكة المتحدة قتله ببرودة 25 من مقاتلي طالبان في أفغانستان، كانوا يركبون دراجات نارية. قال إنه كان ينظر إليهم كما لو كانوا “قطع شطرنج، وليسوا بشرا”، ما ألهب مشاعر كثيرين، لاسيما في العالم الإسلامي وأضرَّ بسمعته، وهو مَن كان موضع إعجاب كبير لخدمته التاج البريطاني. وفي سلاح الجو الذي يتطلّب التقيّد بالإجراءات الأمنية والانضباط والحذر، قال دوق ساسكس إنه كان مستعدا لتجاهل الضوء التحذيري في قمرة قيادة مروحيته العسكرية الذي يأمره بالهبوط والتخلّي عن العملية أثناء تحليقه على الخطوط الأمامية في عام 2012. وأوضح أنه كان مستعدا للمخاطرة بنفسه والوقوع في فخ الاعتقال في سبيل تنفيذ أول مهمة مروحية من طراز أباتشي، مضيفا أنّ طيارا أكثر خبرة أعادهم إلى كامب باستيون في إقليم هلمند، ما جعله يشعر كما لو أنه تعرّض للخداع. قال، “كنتُ أرغب في الذهاب.. أجل كنت أريد الذهاب. وكنتُ على استعداد للمخاطرة وإن كان ذلك يعني تحطّم الطائرة والاعتقال – مهما كانت النتائج.” وقد تعدى صدى هذا الاعتراف المملكة المتحدة حيث ذكرت المحطة التلفزيونية البريطانية سكاي نيوز أنه “رداً على ما تم الكشف عنه في مذكرات هاري الجديدة عن أنه قتل 25 من مقاتلي طالبان، قال أنس حقاني، قيادي في حركة طالبان وأحد كبار مساعدي وزير الداخلية في تغريدة عبر تويتر (مخاطبا الأمير): “السيد هاري! من قتلتهم لم يكونوا قطع شطرنج، بل كانوا بشرا”.
التأثير العكسي
من الأسئلة التي يطرحها كثيرون هنا: ما الذي يدفع الأمير إلى الإدلاء باعترافات مسيئة إلى عائلته؟ أهو تمرد؟ أم ربما انتقام لسوء معاملة من عائلته؟ هاري يفند ذلك مثلما أكدت صحيفة “الغارديان” مؤخرا، “في المقابلات التلفزيونية، دافعَ هاري عن نشر سيرته الذاتية بعنوان (سبير) مؤكدا أنها كانت الملاذ الأخير، إذ أنّ فشل العائلة المالكة في معالجة تجاربه ‘المؤذية بشكل لا يُصدق” وأن أياً مما كشفه لم يكن يهدف إلى إلحاق الضرر بهم”. هاري من جهته يبرر اعترافاته أنها جزء من علاجه النفسي ورغبته في التحرر من صدمات الطفولة. فهل ستعينه حقا على تحقيق ذلك؟ علماء النفس لا يرون ذلك، مؤكدين أنه قد تكون لهذه الاعترافات نتائج عكسية لا تخدم العلاج النفسي. فقد أعربت جو همينجز خبيرة علم النفس السلوكي عن قلقها من أنّ الأمير “لم يتصالح مع صدمته”، مضيفة، “يجب أن يكون العلاج عملية شفاء تمنحك شيئا من الغلق أو الهدوء، حتى تتمكن من المضي نحو الأمام في بقية حياتك. لا يبدو الأمر كذلك”. التأثير السلبي لا يقتصر على العلاج النفسي حسب، إذ ينعكس أيضا على شعبيته، فما يناهز ثلثي البريطانيين (64%) يقولون إن لديهم وجهة نظر سلبية عن دوق ساسكس، مقارنة بـ58% في مايو/أيار، وفقا لاستطلاع يوجوف. وسجلت شعبية هاري وسط الجمهور البريطاني أدنى مستوى لها (38%). والأمر ينطبق أيضا على زوجته ميغان التي انخفضت شعبيتها إلى (42%).
وبينما يستمر تساقط قذائف الاعترافات، يفاجئنا الأمير بدعوته عائلته إلى الحوار والمصالحة، معبّرا عن أمله في “استعادة العلاقات” مع والده وشقيقه الأمير وليام وريث العرش. قال في لقائه المثير على قناة (أي تي في) إنه منفتح على المصالحة وحتى العودة إلى دور ملكي جزئي، على شرط أن تكون المحادثات “صريحة”. والسؤال الذي نطرحه حينئذ: هل التصالح ممكن؟
الاحتمال يبدو ضعيفا بعد كل الاعترافات التي جسدتها اللقاءات الأخيرة ومذكرات السيرة الذاتية، وكل ما سببته من متاعب وإحراج للعائلة المالكة في المملكة المتحدة وخارجها. وهنا لا يسعنا إلاّ أن نتساءل: ماذا بعد كل هذا القصف؟
هل بلغ الخلاف ذروته وهل ستسير الأمور نحو التهدئة بعد كل ما أدلى به؟
يرد على سؤالنا نيكولاس أوين الذي اشتغل مراسلا ملكيا لشبكة الأخبار البريطانية (آي تي إن) حيث قال لصحيفة “الغارديان”، “الفيلم الوثائقي الذي يعرض على نتفليكس لمدة ست ساعات والمذكرات المؤلفة من 400 صفحة قد يكونان الذروة” ويضيف: “المفارقة في كل هذا أنه عندما غادر هاري وميغان بريطانيا، كان الأمر يتعلق ببدء فصل جديد.. لكنهما على ما يبدو عازمان على الخوض في الماضي”. وإن كنا نشاطر نيكولاس الرأي في ما يخص المفارقة، فإننا قد نخالفه الرأي في ما يخص بلوغ التوتر ذروته. ففي غياب محادثة ومصالحة بين الأمير وعائلته، يبقى خطر التصعيد قائما. ويبقى خطر الإدلاء بمزيد من الاعترافات المسيئة إلى أفراد أسرته واردا. فالأمير لم يلعب كل بطاقاته بعد، إذ ما زال يملك ذخيرة قادرة على إحداث مزيد من الحرج والضرر لعائلته المالكة، وهو ما أكدته مؤخرا صحيفة “ديلي تلغراف” البريطانية التي كتبت: “يقول الأمير هاري إن لديه ما يكفي من المواد لكتابة مذكرات أخرى واختار عدم نشر بعض التفاصيل، لأنه كان قلقًا من أن والده وشقيقه لن يسامحاه أبدا إذا تم الإعلان عنها”.
وكشف الأمير لصحيفة “ديلي تلغراف” أنّ “النسخة الأولية لكتاب (سبير) كانت ضعف حجم المسودة النهائية”! وأوضح، “كان الكتاب مؤلفا من 800 صفحة، والآن تقلص حجمه إلى 400 صفحة، أو بعبارة أخرى، كان بالإمكان إصداره في شكل كتابين. وليس ثمة شيء أصعب من الحذف”، معترفا أنه “وجد صعوبة في تحديد ما يجب إزالته”. وأكد الدوق أنَّ “الكثير من التفاصيل التي تم حذفها في النهاية تتعلق بوالده وشقيقه”.
المتضرر الأكبر؟
لم يستغرق لقاء قناة (أي تي في) أكثر من 90 دقيقة، لكنّ أصداءه قد تتردد في الآفاق لحقبة طويلة، مما لا شك فيه أن المتضرر الأكبر من هذه الاعترافات هو الثقة بين الأمير وعائلته، فالثقة كالتحفة الأثرية النادرة إن انكسرت، لا تُعوض. فمن خلال تصريحاته الخطيرة، يبدو أنّ الأمير هاري قد حفر شرخا بينه وبين عائلته يصعب عليه سده، وأنّ علاقته بالعائلة المالكة قد بلغت نقطة اللاعودة. وباحتفاظه اليوم بمعلومات في حجم كتاب آخر ـ مثلما جاء على لسانه – ليس من شك في أنّه يملك ذخيرة تسمح له بالإغارة على عائلته مجددا، ولفترة أطول، مسببا مزيدا من الإحراج والضرر. لكنّنا لا نشك لحظة في قدرة العائلة المالكة على المقاومة والحياة، وهي التي استطاعت البقاء رغم كل الضربات التي لحقتها في مشوار حياتها الطويل عبر العصور. وهي التي رغم كل الزوابع والعواصف والأمطار، ما زالت تتمتع بشعبية عالية، ليس في المملكة المتحدة فحسب، بل في مجموعة الكومنولث وبقية العالم، وهو ما يشهد عليه رحيل جدته الملكة إليزابيث الثانية الذي خطف كل الأنظار وأثر في قلوب جماهير واسعة في بريطانيا والعالم.
القدس العربي