ناظم الزهاوي: الجد والحفيد… بين زمنين
تصاعدت أصداء إطاحة رئيس حزب المحافظين الحاكم في بريطانيا ناظم الزهاوي، إثر فضيحة تهرب ضرائبي، ألحقت بفتح ملفات فيها شبهة كسب غير مشروع من شركات عاملة خارج المملكة المتحدة، إذ قال رئيس الوزراء ريتشي سوناك، في خطاب الإقالة، إن التحقيق أثبت ارتكاب الزهاوي «خرقا خطيرا لمدونة السلوك الوزاري». وكان سوناك قد طلب من مستشار الحكومة للقيم السير لوري ماغنوس، التحقيق بعد أن تبين أن الزهاوي دفع غرامة إلى هيئة الضرائب أثناء عمله وزيرا للمالية، بسبب عدم دفعه ضرائبه في السابق، وخلص تحقيق السير لوري إلى أن الزهاوي لم يكشف بوضوح عن موارده المالية.
وأرسل سوناك رسالة إلى الزهاوي، قال فيها: «نتيجة لذلك، أبلغك بقراري وهو عزلك من منصبك في حكومة جلالته». وردا على ذلك، شكر ناظم الزهاوي رئيس الوزراء، وقال إنه فخور بإنجازاته في الحكومة، حيث سلط الضوء على إطلاق حملة اللقاحات إبان جائحة كورونا، وترتيبات جنازة الملكة، لكنه لم يقدم اعتذارا، أو يتحدث عن شؤونه الضريبية. ووعد باستمرار تقديم الدعم لرئيس الوزراء «من المقاعد الخلفية في مجلس العموم في السنوات المقبلة». إذن أطاح المهاجر من أصول هندية ريتشي سوناك، الذي أصبح أول رئيس وزراء هندوسي في المملكة المتحدة، برئيس حزبه الحاكم، المهاجر من أصول عراقية ناظم الزهاوي، من رئاسة أعرق حزب بريطاني، إنها حقا مفارقة تاريخية.
من تناولوا سيرة السياسي البريطاني ناظم الزهاوي كتبوا أنه: سياسي ووزير بريطاني، دخل الحياة السياسية رسميا عام 2010 نائبا في البرلمان عن حزب المحافظين ممثلا لمدنية شكسبير «ستراتفورد أبون أفون» ليصبح أول عضو برلمان في المملكة المتحدة من أصول كردية. تدرج بعدها بسرعة ليصل إلى قمة هرم السياسة البريطانية بتبوئه رئاسة حزب المحافظين عام 2022 خلفا لبوريس جونسون. أشار موقع «بي بي سي» إلى مقتطفات من سيرة الزهاوي بالقول إنه، «ولد في العراق، في 2 حزيران/يونيو 1967، وانتقل إلى المملكة المتحدة مع أسرته عندما كان في التاسعة، وتلقى تعليمه في «كينغز كولدج» في ويمبلدون، وتعليمه الجامعي في «يونيفرسيتي كولدج» التابعة لجامعة لندن، وهو متزوج ولديه ثلاثة أطفال. لكن لم يشر أحد إلى جده الذي يحمل الزهاوي الحفيد اسمه، ناظم الزهاوي السياسي والوزير العراقي، اليساري الذي تبوأ مناصب مهمة في العهد الملكي وفي عهد الجمهورية الأولى. بقي ناظم الزهاوي الجد من شخصيات الظل في السياسة العراقية، ولم يشر له إلا بنتف متفرقة هنا وهناك، حتى كتب عبد المنعم الاعسم كتابه عن ناظم الزهاوي والمعنون «ناظم الزهاوي.. رجل الدولة والإصلاح» الذي صدر عام 2014، حيث سلط فيه الضوء على هذه الشخصية الوطنية المهمة، التي لعبت أدوارا مميزة في السياسة العراقية منذ الثلاثينيات حتى وفاته منتصف الستينيات. يذكر الأعسم في كتابه أن ناظم الزهاوي ولد في إحدى قرى شمال شرق بغداد قرب ديالى عام 1910 لأسرة ميسورة الحال عرفت بمكانتها الدينية، وثرائها القائم على الاستثمار في العقارات والأراضي الزراعية. والده عبد الجليل الزهاوي أدار أملاك العائلة الزهاوية ونشط في المجالات التجارية، بينما كان جده محمد فيضي الزهاوي، ذا مكانة وحظوة لدى السلطة العثمانية، إذ كان مفتي الديار العراقية المشهور بعلمة وورعه. عاش ناظم الزهاوي الجد غالبية عمره في العاصمة بغداد، وشهد وهو طفل الحرب بين فلول الجيش العثماني المنسحب من العراق، والجيش البريطاني المتقدم لاحتلال العاصمة بغداد. عندما أكمل ناظم الطفل دراسته الأولية في الكتاتيب وفي المدرسة الابتدائية توفي والده، الأمر الذي اضطر والدته للانتقال به إلى بغداد، وقد حمل الطفل ذكريات مزعجة حيال الإنكليز نتيجة مآسي الحرب التي شهدها، على الرغم من أن والده الذي كان مالكا لأرضٍ واسعة في المنطقة اعتبر جنود وضباط الوحدة الإنكليزية بمثابة ضيوف لديه في قرية الويسي. وسرعان ما وجد الفتى ناظم الزهاوي الذي حمل مشاعر سلبية حيال الاحتلال البريطاني حاضنته الفكرية بمدرسة التفيض التي دخلها في بغداد، إذ كانت تستقطب في صفوفها الدراسية «أبناء الذوات» و»أبناء الافندية» الذين تشكلت منهم أولى التيارات الوطنية المحلية المتأثرة بالحركة الكمالية في تركيا.
بدأ نشاط ناظم الزهاوي السياسي مبكرا وهو في مطلع العشرينيات من عمره، حيث انخرط في جماعة الأهالي التي ضمت نخبة مهمة من اليساريين المعتدلين والمنادين بتطبيق أفكار العدالة الاجتماعية والإصلاح السياسي، تأثرا بفكر حزب العمال البريطاني، وكان من أبرز سياسيي اليسار المعتدل في جماعة الأهالي: جعفر أبو التمن، وكامل الجادرجي، لكن نشاطه السياسي الرسمي حدث بعد الانفراج السياسي الذي حصل عام 1946 بعد إطاحة وزارة الباجةجي، إذ تم تشكيل حكومة توفيق السويدي، التي أفسحت المجال لبعض الحريات، حيث تم إلغاء الاحكام العرفية، وإنهاء الرقابة على الصحافة، وإغلاق معسكر الاعتقال السياسي الوحيد في العراق. كما تم ترخيص خمسة أحزاب سياسية هي: حزب الاستقلال، وحزب الأحرار، والحزب الوطني الديمقراطي، وحزب الاتحاد الوطني، وحزب الشعب. وأصبح ناظم الزهاوي عضوا في أول لجنة مركزية منتخبة لحزب الاتحاد الوطني، الذي يرأسه عبد الفتاح إبراهيم، كما عمل الزهاوي رئيسا لتحرير جريدة «السياسة»، الجريدة الرسمية لحزب الاتحاد الوطني، والكاتب الرئيسي لافتتاحياتها التي نشر فيها أفكاره الإصلاحية اليسارية. وعلى الرغم من بعض الإشارات التي قالت إن ناظم الزهاوي كان شيوعيا، إلا أن الحقائق المؤكدة تشير إلى أنه كان ماركسي التفكير، لكنه لم ينتمِ إلى الحزب الشيوعي العراقي نهائيا، على الرغم من علاقاته القوية مع العديد من القيادات والشخصيات الماركسية والشيوعية مثل، عبد الفتاح إبراهيم، وزكي خيري، وعاصم فليح، وحسين الرحال. ومن أبرز القيادات الشيوعية التي ارتبطت بعلاقة وطيدة مع ناظم الزهاوي كان المحامي شريف الشيخ، إذ كان يجمعهما مكتب واحد للمحاماة في بغداد، وكان هذا المكتب مكانا للقاءات السياسية والحزبية المعارضة، لكن ناظم الزهاوي بقي غير مؤمن بالفعل الثوري في السياسة، وكان ميالا إلى الفكر الاشتراكي الإصلاحي. وكان للزهاوي دور مهم في بناء مؤسسات الدولة العراقية في طور التأسيس، إذ اشتغل في عدد مهم من المؤسسات الاقتصادية العراقية، وكان يديرها بعقلية متفتحة وإصلاحية، وكانت الحكومات المتعاقبة في العهد الملكي تختار الزهاوي لإدارة بعض المؤسسات لتنظيفها من الفساد، والنهوض بأدائها، فقد أدار مؤسسة أموال القاصرين التي تحولت إلى دائرة رعاية القاصرين وجعلها من الدوائر المميزة، ثم عمل في وظيفة المفتش العام المالي للبنك الصناعي، والمدير العام لمجلس الحبوب، والمدير العام لوزارة الاقتصاد، وعضو مجلس إدارة شركة نفط العراق وممثلها في المملكة المتحدة مدافعا عن حقوق العراق، بالإضافة إلى تكليفه بعد قيام الجمهورية الأولى بإدارة شركة الزيوت النباتية، خلفا لمحمد حديد الذي عين وزيرا للمالية، ثم مديرا عاما لمديرية الاستيراد، وبعدها تولى إدارة البنك المركزي العراقي حيث لعب دورا متميزا في خروج العراق من منطقة الجنيه الإسترليني، وفي إنهاء تجميد الأرصدة العراقية في البنوك البريطانية، حتى عام 1960 إذ اصبح وزيرا للتجارة في حكومة عبد الكريم قاسم. عندما وقع انقلاب شباط/فبراير 1963 كان الزهاوي في لندن يعالج زوجته الأرمنية التي عاشت معه ثلاثين عاما على الحلوة والمرة، فبقي في بريطانيا لبعض الوقت نتيجة اضطراب الأوضاع في العراق. ونتيجة للمكانة العلمية والعملية والنزاهة التي عرف بها ناظم الزهاوي، استدعته المملكة العربية السعودية من لندن ليشرف على إنشاء وإدارة البنك المركزي السعودي، وفي السادس من تشرين الثاني/نوفمبر 1964 توفي ناظم الزهاوي عن عمر 54 عاما بعيدا عن بلاده ممتلئا بالحسرة، والموجع في الامر أن الرئيس عبد السلام عارف رئيس الجمهورية رفض نقل جثمان شخصية وطنية بهذا المقام ليدفن في تراب وطنه، فدفنته العائلة في مقابر مدينة الرياض ككل العراقيين الراحلين في بلدان اغترابهم.
القدس العربي