الاقتصاد السحري للانهيار اللبناني
معجم كامل أفرزه الانهيار، لا سيما المالي، في لبنان. بدءاً من ابتداع أسعار مختلفة للدولار الأمريكي، وإيثار تلقيب كل منها في ذات الوقت بأنها «الدولار كذا». كما لو لم يكن للعملة الأمريكية من أهل ـ أو وزارة خزانة ـ يسألون عنها.
وهكذا، صرنا إلى التمييز بين دولار حي يرزق، يسمى «الفريش» هو الذي توافيه السيولة النقدية، وبين دولار نصف ميت، ثم ثلاثة أرباع الميت، يسمى «اللولار» هو الدولار الذي كان يتراكم في أرصدة المودعين في المصارف اللبنانية إلى حين افتراق مصائر هؤلاء. بين من نجح في إخراج أمواله الى الخارج قبل وقوع الواقعة المتصلة باستشراس أزمة السيولة واتخاذها أكثر فأكثر سمة الإفلاس الكبير. ومن استطاع إخراج أرصدته قبل الكارثة ساهم بالنتيجة في تسريع وقوع هذه الكارثة على سواه. علماً أن حركة إخراج الأموال من المصارف اللبنانية بإتجاه الخارج لم تتوقف طيلة الانهيار. بل اختلفت شروطها. ازدادت تعقيداً وتفاوتاً بين المودعين. خضعت لأكثر من محدد وعامل تأثير. في وقت كان صغار ومتوسطو المودعين يسامون المهانة وهم يجهدون لإخراج بعض من حر مالهم من ودائعهم، ولو بقيمة متدنية لهذا المال، وبنسبة جزئية بل رمزية منه فقط، كان لا يزال لعدد من أصحاب الأرصدة الكبيرة القدرة على المقايضة، لأجل إخراج كتل مالية أكبر بكثير. لا يلغي ذلك في الوقت نفسه أن كتلة كبيرة جداً من أصحاب الودائع الكبيرة لم تنجح في إخراج أموالها، في حين أن نسبة ملحوظة من متوسطي وصغار المودعين صفروا عملياً حساباتهم على امتداد السنوات الأربع الماضية، بأن أرغمتهم مشقة الحياة على السحب المتواصل لأموالهم من المصارف بأقل بكثير من قيمتها، وبشكل أساسي من خلال اتساع الهوة بين الدولار «البائت» اللولار، وبين الدولار الفريش.
واللولار جاء في مرتبة وسطى بين «الفريش» المعافى وبين الدولار على السعر الرسمي الذي تجاوزه سعر الصرف في السوق ثلاثين ضعفاً قبل أن يضرب السعر الرسمي مؤخراً بعشرة أضعاف، ليعود من ثم الفارق بين السعر الرسمي وسعر السوق الى الإتساع أكثر فأكثر مع الانهيارات المتواصلة للعملة المحلية.
وقد توسع علم الدلالة الجنوني هذا. فأضحينا أمام دولار «طالبي» ودولار «جمركي» ودولار «استشفائي تأميني» ودولار على سعر خاص بشركات التحويل، ودولار «منصة صيرفة» ومن بعده دولار «صيرفة بلاس». دولار منصات السوق السوداء هو الأقرب إلى الصدقية من كل ما سلف. لا يلغي أن المضاربات لها قسط من تفسير عملية ارتفاعه المتواصل، انما لا تفسر المسار كله. وحتى بالنسبة الى سعر صرف الدولار في السوق السوداء، فبعد أن أتخذت وزارة الاقتصاد قرارا بتجويز تسعير السلع في المتاجر بالدولار الأمريكي مطلع هذا الشهر، دخلنا في بدعة جديدة: ظهور فارق ملحوظ بين سعر السوق السوداء «الرسمي» وبين سعر السوق السوداء عندما تجد السوبرماركتات مصلحتها في ذلك. ويضاف هنا تفريق جديد بين الليرة «العالقة» في المصارف هي الاخرى، بحيث لا يمكن ان يسحب من الوديعة بالليرة أو من تحويل يصلك بالليرة الا النذر القليل، وبين الليرة «الفريش» الحرة، التي يمكن ان تستخدم قسم منها، بشروط معينة، من خلال منصة صيرفة التي يرعاها المصرف المركزي، لشراء دولارات بسعر أفضل من سعر الدولار في السوق.
صادمة النقلة هنا. من ربع قرن عاش فيه البلد على فقاعة تثبيت سعر صرف الليرة مقابل الدولار وبين تشظي أسعار الصرف بهذا الشكل الذي يعكس بشكل أو بآخر تشظي البلد نفسه، مجتمعياً وسياسياً، وغلبة سياسة الهروب الى الأمام على كل صعيد، رغم انسداد الأفق، على كل صعيد أيضاً. ساهم تثبيت سعر الصرف لربع قرن في مفاقمة متواصلة للمشكلة حتى باتت مستعصية. فبدلا من تحديد سعد الصرف بناء على القوة الاقتصادية للبلد، وفي ضوء الميزان التجاري ومعدلات التضخم، جرى إفقاد البلد كل مرونة في التعامل مع التقلبات في سوق الصرف، داخلياً وخارجياً.
ارتبط هذا التثبيت بانتفاخ المديونية العامة، وبتحول النشاط الرئيسي للمصارف اللبنانية أكثر فأكثر الى الاستثمار على هذا الصعيد، أي جذب الأرصدة المالية لتغذية مديونية الدولة، ويحصل هذا الجذب من خلال الفوائد المرتفعة المعطاة للمودعين، لا سيما الفوائد المعطاة للودائع التي هي بالليرة، وانطلاقاً من وهم أن التثبيت وجد ليستمر. لئن أعطي في البدء لتثبيت سعر الدولار في التسعينيات مهمة جذب الاستثمارات الأجنبية، فإن هذه الاستثمارات أيضاً ارتبطت إما مباشرة بالاستثمار في تضخيم مديونية البلد، من خلال متلازمة «المزيد من الديون من أجل خدمة الديون، في مقابل فوائد مرتفعة جداً للمودعين» أو بشكل غير مباشر من خلال التضخم الفقاعي للسوق العقارية.
الطامة أنه، في أول زمان الانهيار، النصف الثاني من العام 2019، ازدحمت الشاشات اللبنانية بأصناف من «المحللين الاقتصاديين» يدعون الناس للإكثار من استخدام العملة الوطنية، هذا في وقت كانت تتبدد فيه قيمة الليرة. ثم انعكست الآية بعد ذلك بعامين وثلاثة، وطغت نغمة أن المشكلة هي في الابقاء على هذه الليرة التي لا وقف ممكنا لتدهورها، وبالتالي الحل يكون بالدولرة الكاملة. هذا بعد أن فقدت الناس مليارات من الدولارات في أرصدتها في السنوات الماضية حين لم يتح لها سحبها بالدولار وانما بنصف ثم ثلث ثم ربع ثمنه، من خلال بدعة «لولار». لكن هذه النقلة الى دولرة التسعيرة على السلع، معطوفة على زيادة «الدولار الجمركي» ستضاعف العدوان الاجتماعية على الأكثرية الشعبية المفقرة من سكان البلد. وأبسط شيء هنا الالتفات الى انه في وقت تعتمد المتاجر والمجمعات الاستهلاكية التسعير بالدولار فإنها توفي أجور عمالها وموظفيها بالليرة. في الوقت نفسه، فإن تأثير هذا النوع من الدولرة، تحت ضغط التجار، في مقابل زيادة الأعباء الجمركية على هؤلاء التجار، من شأنه أن يدفع بالبلد ككل الى حالة كساد استهلاكية. ففي لحظة باتت منصرمة من عمر «الأزمة» كان لبنان يبدو على أن فيه أغلى سوق وأرخص سوق في العالم. أغلى، ان كانت بحذوتك العملة الوطنية، وأرخص ان كان لديك منال للدولار الفريش. الآن يتجه البلد الى أن يكون الأغلى بالدولار، في وقت تراجعت فيه بشكل مريع مداخيل أكثرية الناس، و«طارت» فيه ودائعهم في المصارف.
يرتبط هذا بسمة مزدوجة للانهيار. فمن جهة، الكتلة الأكبر من الأموال المبددة مع الافلاس غير المعلن لكل من الدولة والمصارف هي أموال كبار المودعين. لم يتمكن معظمهم من اخراجها في الوقت المناسب. مليارات الدولارات خسرتها أوساط أساسية من الأوليغارشية والبرجوازية. بالتوازي، لم يساهم ذلك في «افقار الجميع» بالتناسب. بل زادت الفجوة الاقتصادية الاجتماعية بالثروات وبالمداخيل. «الافقار» الذي أصاب من هم في أعلى الهرم زاد الفجوة بينهم وبين من هم «تحت». بدل أن يأخذ الوضع طابعا تصادمياً بين معسكرين اجتماعيين، تشكل نظام مجتمعي من الحلقات التي تدور حول بعضها البعض، فكل فئة مهمومة بأن لا تصاب بما تعيشه الفئة التي تقاسي شروط عيش أصعب عليها، ومهمومة بالعكس بأن تقترب من الفئة التي فوقها في هذا التراتب. يفاقم الانهيار حالة من الارتجاج المجتمعي المحتقن اذا. لكنه، في شكله الحالي لا يساهم بانتاج أي لحظة تمردية على الكارثة.
واحدة من قنوات الاخضاع المجتمعي الأساسية تبقى منصة صيرفة. اعتمدها المصرف المركزي منذ نحو عامين، لتأمين عملية بيع وشراء الدولار بسعر أفضل من سعر السوق. وهو ما تقلبت الاستفادة منه، اذ حصرت تارة بالتجار واتسعت تارة أخرى للأفراد العاديين، من ضمن شروط معينة. زينت هذه المنصة لنفسها أنها مسعى للحد من المضاربات بالعملة. لكن اسهامها السوسيولوجي الأساسي يتقوم في أسر الناس ضمن لعبة «سحرية» معينة: تحويل الليرة المنهارة الى دولار فريش لشراء المزيد من الليرة المنهارة به!
ولاستيعاب ذلك ينبغي مغادرة الأحكام الأخلاقوية الفجة على الناس. في منصة صيرفة ما يذكر بشيوع لعبة مونوبولي، لمن يتذكر، منتصف الثمانينيات من القرن الماضي في لبنان، بالتزامن مع بدء انهيار العملة اللبنانية، الانهيار الأول. في الحالتين، ثمة سلوى للناس، ولعبة.. اجتماعية. الناس تحول عبر منصة صيرفة «تعتيرها» الى لعبة. تضع في ماكينة الصراف الآلي، أوراق المونوبولي، العملة اللبنانية، لتنال بعضاً من الدولار الفريش ثم تهرول به عند الصراف. تفضل حينها ان يكون الدولار الى صعود لأن مصلحتها الآنية تقتضي ذلك. أهو شكل للاستلاب؟ بل هو الشكل المطلق للاستلاب، لكن مواجهته تطلب قبل كل شيء آخر استبطان شعور الناس وهي تزاول هذه اللعبة، وليس وعظهم من فوق.
القدس العربي