الصين: زيادة الميزانية العسكرية لتحقيق رياده عالمية؟!
تناول الإعلام الدولي ميزانية الجيوش في مختلف الدول، ومنها استمرار تصدر الولايات المتحدة أكبر ميزانية في العالم، تليها الصين، غير أن الأرقام غير كافية لفهم هذا الترتيب. بينما دراسة الموضوع بعمق سيقود إلى نتيجة وهي أن الصين تتوفر على أكبر ميزانية عملية وذات مردودية في العالم متفوقة على البنتاغون.
في هذا الصدد، أعلن ناطق باسم الحزب الشيوعي الحاكم رفع ميزانية الدفاع في البلاد بنسبة 7.2% لتصبح 224 مليار دولار برسم سنة مقارنة مع سنة 2022، وبهذا تم تخصيص نسبة أكبر للدفاع مقارنة مع النمو الاقتصادي السنوي الذي سيكون 5%. والقرار الصيني ليس مفاجئا، إذ أن الكثير من دول العالم رفعت من ميزانيتها العسكرية بشكل كبير متجاوزة النمو الاقتصادي.
ومن العالم العربي نجد الجزائر في الدرجة الأولى، ثم السعودية والمغرب. في حين خصصت دول أخرى ميزانيات خاصة لاقتناء الأسلحة والتصنيع، ولعل الحالة الأبرز هي لليابان وألمانيا، بلدان تميزا منذ الحرب العالمية الثانية بالرهان على السلم، لكن الآن يراهنان على الحرب. وفي حالة الولايات المتحدة، كانت ميزانية الدفاع سنة 2022 هي 760 مليار دولار، وأصبحت سنة 2023 ما يقارب 857 مليار دولار، وهي زيادة أكثر من الصين. وتأتي كل هذه التطورات المتسارعة في التصنيع الحربي واقتناء العتاد العسكري نتيجة الحرب الروسية ضد أوكرانيا، وهي الحرب التي تقلب وتغير الكثير من التحالفات والاستراتيجيات وطنيا ودوليا وعالميا. وعودة إلى الصين، يهدف هذا البلد العملاق إلى ريادة العالم ابتداء من نهاية العقد المقبل، بينما المؤشرات الميدانية، تؤكد أنه قد يبدأ ريادة العالم النسبية على الأقل ابتداء من بداية العقد المقبل، أي ما بين سنتي 2030 و2032. وعبر التاريخ، الريادة الحقيقية تعني القوة العسكرية حتى تفرض الدولة القوية هيبتها ومصالحها. وتتجلى القوة العسكرية في ضرورة امتلاك بحرية حربية قادرة على التحرك في العالم، وهذا معطى تاريخي، لاسيما بعدما أصبحت الإمبراطوريات شاسعة بين القارات، إذ لا يمكن فهم قوة البرتغال وإسبانيا في القرن السادس عشر من دون قوة بحرية. ولا يمكن فهم توسع بريطانيا من دون أسطول حربي، كما لا يمكن فهم قوة الولايات المتحدة الآن من دون أساطيلها التي تجوب بها بحار العالم، وهي قواعد عسكرية متقدمة تسمح لها بالتدخل في الكثير من مناطق العالم في ظرف وجيز للغاية. وانضاف إلى القوة البحرية ضرورة التوفر على سلاح جوي متقدم من طائرات مقاتلة ومقنبلات وصواريخ بشتى أنواعها، من باليستية ومجنحة وفرط صوتية، لاسيما في ظل استبعاد استعمال السلاح النووي، ويضاف إلى التوفر على القوة البحرية، هدف الصين استعادة تايوان عبر الردع العسكري مستقبلا، أي جعل تايوان تقبل بانضمام إلى الصين تدريجيا من دون حرب. لماذا تتجاوز عمليا ميزانية الصين العسكرية نظيرتها الأمريكية رغم فارق الأرقام لصالح البنتاغون؟ يتعلق الأمر أساسا بالمقارنة على مستوى الأجور والصيانة واقتناء الأسلحة ثم المصاريف عامة. وعليه، أجر جندي أمريكي عادي يساوي أجرة ثمانية جنود صينيين، وبالتالي على مستوى الأجور، كل ثمانية دولارات تنفقها الولايات المتحدة على جندي واحد، تنفق الصين دولارا واحدا. على مستوى آخر، صيانة العتاد العسكري في الولايات المتحدة مكلف للغاية، لاسيما التي تقوم به شركات من القطاع الخاص، إذ أن ميزانية صيانة العتاد العسكري الأمريكي تكلف عشر مرات صيانة العتاد العسكري الصيني، وهذا يعني عشرة دولارات أمريكية تساوي دولارا واحدا صينيا في الصيانة.
في الوقت ذاته، معظم شركات الأسلحة في الولايات المتحدة هي تابعة للقطاع الخاص، وليس الجيش باستثناء السلاح النووي، ورغم أن مؤسسة «DARPA التابعة للجيش هي المسؤولة عن البحث العسكري، تنفرد شركات القطاع الخاص مثل بوينغ (الجناح العسكري) ورايتون ولوكهيد مارتين ونورتهوب غرومان بصفقات ضخمة مع الجيش الأمريكي، تصل أحيانا إلى مستوى 90% من معاملات بعض الشركات مثل، نورتهوب غرومان. وتبيع هذه الشركات السلاح بأسعار مرتفعة للجيش الأمريكي، وكان الكونغرس قد انتقد هذه الأسعار. بينما شركات الأسلحة الرئيسية في الصين تابعة للقطاع العام وهي في ملكية الجيش، أو ملكية ضباط سابقين في الجيش يعملون كواجهة فقط، بل يمتد إلى شركات مدنية مثل هواوي، التي هي في ملكية الجيش بطريقة غير مباشرة. وكل دولار تنفقه الصين في اقتناء العتاد العسكري يقابله ما بين سبعة إلى عشرة دولارات في الولايات المتحدة. ومن باب المقارنة، إذا كان الجيش الأمريكي يقتني المقاتلة المتطورة أف 35 من مارتين لوكهيد بحوالي 80 مليون دولار، وكلّفه برنامج البحث العلمي ما يقارب 382 مليار دولار، فالصين تتوفر على مقاتلة مشابهة منذ سنتين وهي جي 35 التي لا تكلف الجيش الصيني سوى 15 مليون دولار، ولم ينفق الكثير في تطويرها، إذ يعتقد أن بكين سرقت تصاميم أف 35 وأف 22 رابتور. وهذا يعني أن سعر أربع مقاتلات صينية متطورة يساوي مقاتلة أمريكية واحدة. من جهة أخرى، تتميز الولايات المتحدة بانتشار واسع في العالم بحوالي مئة قاعدة عسكرية بين ضخمة ومتوسطة وصغيرة، وهذا يتطلب ميزانية ضخمة، بينما الصين بالكاد لديها قاعدة عسكرية واحدة في جيبوتي.
الولايات المتحدة خاضت الكثير من الحروب، وجزء من الميزانية يذهب إلى المحاربين القدامى لتغطية مصاريف التطبيب ومساعدتهم على الاستثمار لخلق فرص عمل وإدماجهم في الحياة العامة، ولا تعاني الصين من هذه الظاهرة حاليا لأنها لم تخض حروبا. إن الأخذ بعين الاعتبار هذه المعطيات هي التي تجعل الميزانية العسكرية الصينية عمليا أكبر وأكثر فعالية من الميزانية العسكرية للبنتاغون، رغم الفارق في الأرقام لصالح الولايات المتحدة أربع مرات. فقد نجحت الصين، رغم الفارق في الميزانية، من الاقتراب من مستوى البحرية الحربية الأمريكية، فقد تفوقت عليها في عدد السفن الحربية، وتمتلك الآن أقوى سفينة حربية على مستوى القوة النارية، وهي المدمرة نانشانغ التي دخلت الخدمة سنة 2020. وتمتلك الصين ثماني مدمرات من هذا النوع بأسماء مختلفة. كما أن الأخذ بعين الاعتبار هذه المعطيات هي التي جعلت الجيش الصيني يمتلك تدريجيا ثالث قوة جوية في العالم بمقاتلات ومقنبلات، ويمتلك ثاني أهم منظومة صواريخ فرط صوتية في العالم وراء روسيا، ومتقدما على كل الدول الغربية. ويتقلص الفارق باستمرار وبسرعة. لهذا، رغم أن ميزانية البنتاغون أربع مرات ميزانية الجيش الصيني، إلا أنه في الواقع الميداني تبقى ميزانية الصين، أخذا بعين الاعتبار المعطيات السابقة، أكبر من ميزانية البنتاغون. وقد انتبه عدد من قادة الجيش الأمريكيين إلى هذا الفارق، ويطالبون بإعادة النظر في طريقة التسليح والصيانة والتدريب وجعل الجيش هو المسؤول الأول والأخير مع استبعاد القطاع الخاص أو التقليل من دوره في الدفاع.
القدس العربي