هل ستفهم فرنسا درس المغرب؟
ليس شريكا عاديا ولا حليفا ثانويا، فالمغرب بالنسبة للمصالح والاستراتيجيات الفرنسية يعني الكثير، لكن هل كان ممكنا في ظل البرود الملحوظ بين العاصمتين أن يلتقي الرئيس الفرنسي، الذي وصل الأربعاء الماضي إلى ليبرفيل بالعاهل المغربي الذي كان في الغابون، ولو لوضع بعض النقاط على الحروف؟ لم يرتبط الأمر بمجرد رغبة طرف دون الآخر، بل باستعداد الطرفين لذلك.
ومن الواضح هنا أن الفرنسيين حرصوا على اقتناص الصورة أكثر من أي شيء آخر، غير أن المغاربة لم يرغبوا بمصافحة شكلية، تكون نتيجتها الوحيدة هي سماع مزيد من البيانات الفضفاضة التي لا تفيدهم، ولعل هذا ما جعل المصادر الإعلامية في باريس والرباط تستبعد جميعها تلك الفرضية بشكل مسبق، رغم أن إيمانويل ماكرون أشار، حين سئل الاثنين قبل الماضي في المؤتمر الصحافي الذي عقده في الإليزيه حول سياسته الافريقية للأعوام المقبلة، عن علاقة بلاده بالجزائر والمغرب، إلى الصداقة التي تجمعه بالملك محمد السادس، والتي أكد على أنها «ستستمر»، مشددا على رغبته «في المضي قدما» في علاقة فرنسا بالجارتين المغاربيتين.
لكن مشاعر الود التي أظهرها رئيس فرنسا نحو ملك المغرب تُركت، كما يبدو ومنذ شهور، على الرف ووضعت تلك الصداقة في المقابل على محك اختبار عملي حاسم ودقيق. لقد بعثت الرباط وعلى مدى عدة أسابيع أكثر من إشارة تدل إلى تطلعها إلى تجديد علاقتها بباريس، وجعلها «تتلاءم مع التطور الذي شهدته المملكة» مثلما عبّر عن ذلك مثلا وزير الخارجية المغربي أواخر العام الماضي، عند استقباله لنظيرته الفرنسية، غير أن باريس تعمدت أن لا تلتقط أيا منها ولم تتعامل معها بالجدية المطلوبة، وظلت تكرر بالمقابل وباستمرار اسطوانة النفي والإنكار التام لوجود أي أزمة بينهما، مدعية كما فعلت الناطقة الرسمية باسم خارجيتها في يناير الماضي بأنه «على العكس من ذلك فنحن، أي فرنسا والمغرب، في شراكة استثنائية نعتزم تنميتها». هذا هو ما جعل المغاربة يضيقون ذرعا بما اعتبروه أسلوبا التفافيا في التعامل معهم لن يرضيهم، أو يجعلهم قادرين على غض الطرف على ما يرونها مخاتلة فرنسية، ومحاولة مستمرة للهروب إلى الأمام، بإنكار وجود ما يعتقدون أنه أزمة حقيقية تعكر علاقة العاصمتين. لقد طفح الكيل بهم، وفي أقوى مظهر على ذلك خرجت مجلة «جون افريك» الفرنسية لتفند مزاعم ماكرون، وتقول بعد يومين فقط من تلك التصريحات، ونقلا عن مصدر مسؤول في الحكومة المغربية إن «العلاقات ليست ودية ولا جيدة بين الحكومتين، أكثر من العلاقات بين القصر الملكي والإليزيه»، قبل أن تضيف بأن العنصرين اللذين أشارا إليهما ماكرون في مؤتمره الصحافي أي قضية بيغاسوس وتصويت البرلمان الأوروبي على قرار ضد المغرب ليسا «سوى توضيح لهذا الوضع، وقد تم إخفاء نقاط توتر أخرى بشكل متعمد، بما في ذلك التقييد التعسفي للتأشيرات والحملة الإعلامية والمضايقات القضائية»، كما أن «مشاركة وسائل الإعلام وبعض الدوائر الفرنسية في نشأة قضية بيغاسوس والترويج لها، لا يمكن أن تتم من دون تدخل السلطات الفرنسية، مثلما لا يمكن أن يمر تصويت البرلمان الأوروبي من دون التعبئة النشيطة لمجموعة التجديد التي تهيمن عليها الأغلبية الرئاسية الفرنسية، ويترأسها ستيفان سيغورني، الذي تتمتع صلاته بالاليزيه بسمعة سيئة»، استنادا إلى المصدر نفسه، وذلك يعني بعبارة أخرى، أن على فرنسا أن تقوم الآن بمراجعات حتى تحافظ على موقعها في المغرب. والسؤال اليوم هو ليس إن كانت زيارة الرئيس الفرنسي للرباط، التي أجلت أكثر من مرة ستتم بالأخير في الموعد المعلن عنه، أي الشهر الحالي، أم أنها ستتأجل من جديد؟ بل ما الذي ستحمله للبلدين من إضافة، وهل أنها ستمثل بالفعل منعطفا حاسما، وربما حتى تاريخيا في إعادة تشكيل علاقة جديدة بينهما قائمة على أسس مختلفة؟ لقد ادعى الفرنسيون، الذين طالما اعتبروا المغرب واحدا من أكثر الدول القريبة منهم، والوجهات السياحية المفضلة لديهم، أنهم أكثر من يعرفه ويفهمه، غير أن النتيجة هي أنهم وجدوا أنفسهم عاجزين طوال شهور عديدة عن الخروج من مأزق حاد معه، كان سببه المباشر والأصلي هو نقص معرفتهم به وفهمهم له. لقد ظنوا أن البلد الذي كانوا يتصورونه حديقتهم الخلفية في افريقيا هو فعلا كذلك، ولم يخطر ببالهم على الإطلاق أنه سيكون قادرا يوما ما على التطلع بعيدا عن الفلك الفرنسي، أو أن يكون منافسا شرسا لهم في أسواق دول القارة السمراء، التي كانوا يعتبرونها أسواقا حصرية شبه مغلقة، أو محظورة على سواهم. والمشكل الحقيقي هو أنهم يعاندون ويرفضون الإقرار بفشل تقديراتهم أو قلة معرفتهم وفهمهم لمغرب اليوم. لقد وقف الرئيس الفرنسي الأربعاء الماضي ليعلن من العاصمة الغابونية عن أن «عهد افريقيا الفرنسية انتهى» وأن «فرنسا لا تبدي أي رغبة في العودة إلى سياستها السابقة بالتدخل في افريقيا». وبغض النظر عما إذا كان ذلك مثل الإعلان سيكون كافيا لإقناع الافارقة بصدق نوايا الفرنسيين نحوهم وبجدية دعوتهم «لبناء علاقة جديدة متوازنة ومتبادلة ومسؤولة» مع افريقيا، فإنه ليس مؤكدا بعد أن ماكرون سيكون قادرا على أن يتحدث بتلك الروح نفسها عن مسائل أخرى مثل العقدة التي تحكم العلاقات الفرنسية المغربية بشكل خاص.
وقد يقول البعض إن الأمر ليس هينا أو بسيطا على أي وجه من الوجوه في ظل التجاذبات والصراعات الحادة في الشمال الافريقي، وأن الفرنسيين ليسوا في وضع يسمح لهم بتحديد خياراتهم بدقة ووضوح، لأنهم يعرفون أن أي تقدم كبير يقطعونه نحو المغرب، سيعتبر في الجارة الأخرى الجزائر نكوصا وارتدادا نحوها، ولأجل ذلك فإنهم دائما ما يأخذون ذلك المعطى بالاعتبار في علاقتهم بالبلدين المغاربيين. ومن اللافت هنا أن ماكرون قال أيضا، وفي المؤتمر الصحافي نفسه وفي رده على السؤال ذاته حول العلاقة مع الجزائر والمغرب، إنه «إذا كان المغرب الكبير واقعا جيوسياسيا اليوم، فهو بلا شك في فرنسا أكثر بكثير منه في المنطقة»، ما قد يشير إلى أن باريس باتت تكتوي بدورها بنار الانقسامات والخلافات الجزائرية المغربية، لكن علام تأخذ فرنسا المغرب؟ إن قلقها ينبع بالأساس من الاندفاع المغربي نحو افريقيا، خصوصا في العقدين الماضيين وبنائه هناك لشبكة واسعة من العلاقات القوية تقوم على شراكة صلبة مع دولها، وفقا لمبدأ «رابح رابح» ثم حرصه على تنويع علاقاته الخارجية مع عدة قوى من خارج الدوائر التقليدية مثل، الصين وروسيا وتركيا. وفي المقابل فإن المغرب لم يعد مستعدا لأن يحدد له الفرنسيون مربعات تحركه القاري والدولي، كما أنه بات يطلب من هؤلاء بأن يعلنوا وبوضوح تام، إن كانوا يقفون معه أم لا، وبالأفعال قبل الأقوال، مع ما يعتبرها قضيته الوطنية الأولى، أي قضية الصحراء. ومع أن الطرفين لم يقطعا بعد شعرة معاوية إلا أن التطورات المقبلة تظل رهينة استيعاب باريس للدرس المغربي، حتى لو أتى ذلك في وقت متأخر.
القدس العربي