قضايا البيئة في مواجهة الثقافة البلاستيكية
يصعب جدًّا الاعتقاد بوجود طريقة ناجعة للحفاظ على البيئة في عالم يزداد استهلاكا وتتبارى كبريات شركاته لكسب المزيد من الأسواق ومضاعفة الأرباح. فما دام الربح هو الهدف الأكبر للجهات المصنّعة، فمن الصعب جدا موافقتها على سياسات وخطط تؤدي في المحصلة النهائية إلى تقليص العائدات والأرباح.
في الأسبوع الماضي كشف تقرير دولي أن كمية المواد البلاستيكية الصغيرة (وتسمى اللدائن الدقيقة) في المحيطات ارتفعت عشرة أضعاف في فترة خمسة عشر عاما، نتيجة فشل كافة السياسات الهادفة لمعالجة الأزمة. ففي الفترة ما بين 2005 و 2019 تضاعفت كميات البلاستيك العائمة من حوالي 22 بالمائة من الطنّ إلى طنّين وثلث الطن. الدراسة قام بها معهد «فايف جايرز» ونُشرت نتائجها في دورية تسمى «بلوس وان». وقد جاءت في الوقت الذي يسعى العالم فيه للتوصل إلى اتفاقية في العام 2024 حول المواد البلاستيكية بعد أن اكتظت البيئة بالمشاكل الناجمة عن ظاهرة الاستهلاك غير المسؤول خصوصا من هذه المادة التي أصبحت منتشرة في القارات والمحيطات، فوجدت في بطون الأسماك، وتحولت إلى سموم تصل إلى جسم الإنسان. ويمكن ملاحظة حالة البذخ التي تؤثر سلبا على البيئة في الاستخدامات الواسعة للمواد البلاستيكية على المستوى الفردي، خصوصا استخدام أواني الطعام لمرة واحدة فقط.
إن من الخطأ الكبير إلقاء اللوم على هذه المادة وحدها حين البحث عن المشاكل البيئية التي بدأت نتائجها تنعكس سلبا على المناخ في أغلب مناطق العالم. ويمكن إضافة الاستخدامات غير المسؤولة للطاقة، ابتداء بطرق إنتائجها، مرورا بأنماط تجهيزها للاستعمال، وصولا إلى ما ينجم عن استخدامها من انبعاث غازي يساهم مباشرة في التأثير على طبقات الجو وإحداث ثقب في طبقة الأوزون وسواها. ولم تساهم سياسات تحاشي استخدام الوقود العضوي في التقليل من التلوث، خصوصا مع تراجع البحث عن مصادر بديلة للطاقة، ولم يُسجّل انخفاض في إنتاج النفط او تكريره او استخدامه، الأمر الذي يؤكد العجز البشري عن احتواء الكارثة البيئية.
يتمثل خطر البلاستيك على البيئة بشكل كبير بتلك الأراضي الواسعة المخصصة لرمي النفايات البلاستيكية، فنظراً لتكدّس كميات كبيرة منها، تكثر بعض الكائنات الحيّة الدقيقة التي تُسرّع من عملية التحلل البيولوجي للمواد البلاستيكية. وهذا يؤدي إلى إنتاج غاز الميثان، وهو الغاز المساهم بالدرجة الأولى في حدوث الاحتباس الحراري. بعض الدول يعمل على تركيب أجهزة لتجميع الغاز من مكبات النفايات والاستفادة منه في إنتاج الطاقة، ولكن هذا الأمر لا يمكن تطبيقه في جميع أنحاء العالم، مما يجعل المشكلة قائمة حتى هذه اللحظة. إضافةً إلى تأثر آبار المياه الجوفية بسموم المخلفات البلاستيكية، وبالتالي تصبح غير صالحة للشرب. فإذا استخدمت للري، انتقلت المشكلة إلى الإنسان نفسه.
لقد بلغت المشاكل البيئية مستويات غير مسبوقة ولا يبدو في الأفق ما يشير للسيطرة الحقيقية عليها لأسباب عديدة: أولها: أن من المستحيل إحداث تغيير جوهري في أنماط الحياة لدى إنسان القرن الحادي والعشرين الذي أصبح مولعا بالاستهلاك غير المحدود ومدفوعا لاستخدام المزيد من وسائل الراحة بأقصر الطرق. ثانيها: تعمق النزعات الفردية والأنانية التي تجعل الفرد غير مستعد للتضحية براحته ومتعته إلا في الحالات القصوى من التضرر الشخصي.
أما المصالح الجماعية فتأتي في مراتب دنيا من اهتمامات الإنسان المعاصر. ثالثها: تصاعد نهم المؤسسات الاقتصادية التي تبحث عن المصلحة بأقصر الطرق ولا مكان في أجنداتها للقضايا البيئية إلا بشكل هامشي. رابعها: غياب التشريعات الصارمة التي تضغط على مصادر تهديد البيئة، فما أكثر الأنهار التي تلوثت نتيجة إلقاء النفايات البشرية بكافة أشكالها ومصادرها في مياهها. وما أكثر انبعاث الغازات المضرّة من المصانع «الحديثة» التي تنتج وسائل الراحة لهذا الإنسان الجشع. خامسها: فشل النظام السياسي الدولي في إيصال الرسالة المناخية للرأي العام على نطاق واسع. صحيح أن هناك برامج إعلامية وتوعوية وتثقيفية لكنها محصورة بمساحات بشرية ضيقة ولم تتحول إلى الرأي العام. سادسها: أن كافة وسائل التسلية والاستمتاع التي فرضتها ثقافة العصر تساهم بشكل كبير في التدمير المناخي، ابتداء بالسيارات ووسائط النقل الأخرى، مرورا بالنقل الجوي وعوادم الطائرات المدنية والعسكرية، والمصانع التي تنتج أحدث الأجهزة التكنولوجية كالهواتف الذكية، وصولا إلى وسائل الترفيه والتسلية ومنها السباقات الدولية في مجال سباق السيارات والألعاب الاولمبية وكأس العالم. فكل هذه المجالات تنطوي على صناعات تساهم مباشرة في انبعاث الغازات المضرة بالبيئة.
حتى الآن لم يستطع العالم الاتفاق على معاهدات وقوانين دولية ملزمة للحد من التداعي البيئي. ومن أهم أسباب ذلك رفض الدول الصناعية الموافقة على خفض التلوث الذي تنتجه المصانع. ومهما قيل عن «تحسين» مواد الوقود المستخدمة في هذه المصانع يستحيل تنقيتها من الجوانب المضرة بالبيئة. هذا لا يعني أن الجهود الهادفة للتوصل لاتفاقات ومعاهدات دولية قد توقفت، ولكنها محكومة بعوامل عديدة من بينها الثقافة البيروقراطية التي تساهم في التأجيل والمساومات المعقدة، وكذلك وجود عوامل داخلية لدى الحكومات مع القطاعات الاقتصادية والتصنيعية، وحتى الإدارية والتشريعية. وإذا تم التوصل إلى اتفاقية دولية ذات معنى فإنها تبقى مادة للمساومات، كما حدث مع معاهدة باريس للمناخ.
أين المشكلة إذن؟ أهي الفرد الباحث عن اللذة والمتعة بدون النظر إلى النتائج الوخيمة المرتبطة بتوفير ذلك؟ أهو أصحاب المصالح الاقتصادية والشركات العملاقة التي تبحث عن الفائدة بأقصر الطرق ولا يشغل الاهتمام البيئة لديها إلا حيزا ضيقا في أسفل جدول الإعمال؟ أم هي الحكومات التي لا ترغب في القيود الدولية أيا كان نوعها ولا تتبرع بتنفيذ الالتزمات إلا مكرهة؟ أم هي الأمم المتحدة والمنظمات المرتبطة بها المعنية بالبيئة والصحة والأمن الغذائي والسلم العالمي؟ إن من الصعب اختزال الأزمة بواحد من هذه القطاعات، بل هو فشل عام يشترك في إحداثه كل الجهات، حتى التي لا تساهم بشكل مباشر في التلوث كوسائل الإعلام والمفكرين ورموز الأديان. فأغلب هذه الجهات معنية بمجالات محددة لا تشكل البيئة فيها أولوية. ومن نتائج فشل هذه الجهات مجتمعة الإبقاء على الراهن الذي يتميز بالاستهلاك المفرط وانعدام الاهتمام البيئي بشكل حقيقي وتغليب المصالح المادية على المبادئ والقيم وأمن هذا الكوكب وسلامته.
ما المطلوب أذن؟ وما الذي يمكن عمله بشكل واقعي؟ بعيدا عن مقولة «اتسع الفتق على الراقع» يمكن طرح بعض النقاط ذات الصلة: أولها ضرورة تحويل قضايا البيئة إلى ثقافة شعبية وترويجها خصوصا بين فئة الشباب، وعدم السعي لتحويل النشطاء إلى أيقونات يصعب محاكاتها كما حدث مع الناشطة الشابة، غريتا ثانبرغ التي بدأت ناشطة وتحولت إلى أيقونة للدفاع عن البيئة، ولكن تأثيرها بقي محدودا. ثانيها: تحريك القطاعات المجمّدة من المجتمع ذات التأثير على الرأي العام كوسائل الإعلام والمؤسسات الدينية والاجتماعية ودور التعليم والثقافة لتساهم في صياغة ثقافة معاصرة تمثل البيئة وقضاياها جوهر اهتمامها.
ثالثها: تشجيع قيام منظمات مجتمع مدني مستقلة تتبنى قضايا البيئة. ثالثها: لعل من أهم التغيير المطلوب إعادة صياغة حياة البشر وتقليص نهمهم المادي، وهذا شبه مستحيل في عالم مؤسس على تشجيع الاستهلاك على كافة الصعدان. هذا التغيير يتطلب معجزات كبرى، كما حدث عندما انتشر فيروس كورونا وفرض أنماطا من الحياة غير معهودة، او كما ينجم عن صعود مفاجئ في الأسعار وحدوث شحة في المعروضات. رابعها: حين يفشل الطرح المعاصر في تغيير مسار البشر، يصبح أمرا ضروريا البحث عن عوامل أخرى مؤثرة، ولا شك أن للتوجيهات السماوية قدرة على اختراق الحجب النفسية حين يصبح منطق «الحلال» و «الحرام» حاكما على سلوك الإنسان. عندها قد يكون هناك أمل في وقف التداعي البيئى وتجنيب الإنسان كوارث الجشع والبذخ والانغماس غير المحمود في المادية والاستهلاك غير المنظم.
القدس العربي