اشتباكات اجتماعية
«اشتباكات اجتماعية»، عنوان حملته زلة لسان مشتركة بيني وبين طلابي، عندما تحدثنا عن مخاطر تحول شبكات التواصل الاجتماعي إلى «صحافة بديلة». حينها قلت لطلابي، إن هذا العنوان يصلح جيدا لديوان شعر يتناول الصراعات الاجتماعية المعاصرة، بدءا بحركة «احتلوا وول ستريت»، مرورا بالثورات العربية والسترات الصفراء، انتهاء بالنضالات الاجتماعية (وإن لم تعد الكلمة مستعملة كثيرا في أيامنا، لكنها في المقابل متجذرة في التاريخ).
إن عصرنا فعلا عصر الاشتباكات الاجتماعية، ولعل أهم حدث بصمته فرنسا في هذا المجال الإجازات المدفوعة في زمن الجبهة الشعبية، التي سجلت منعطفا حاسما في تاريخ اليسار الفرنسي. بالتأكيد، لا يمكن الحديث عن النضال الاجتماعي الفرنسي وتحولاته التاريخية، من دون ربطه بكلمة، ماركسية بطبيعتها وأساسية عمليا، إذا أردنا فهم الصراعات الاجتماعية على الوجه الصحيح، ألا وهي «الطبقة.» نعم سنتحدث عن الطبقة الوسطى والطبقة العاملة، وفيهما عودة حاسمة إلى تاريخ متغلغل في الحاضر، وبالتالي من الخطأ اعتبارهما من «خبر كان» كما يفعل البعض. وحينما نضيف «الطبقة الاجتماعية» إلى «الطبقة العاملة» و «الطبقة الوسطى» نخطئ أيضاً في حال فك مستويات التأويل بين الأولى والطبقتين التاليتين. وهذا خطأ يقع كثيرا أيضا، فغالبا ما تحشر «الطبقة السياسية» في زاوية المصطلح الذي يستخدم في العلوم السياسية والأداة التي يعتمدها المحللون في تحليلاتهم، بينما واقعها أن تمثل طبقة متنفذة تدخل كليا في الصراع الطبقي الذي من الخطأ، مرة أخرى، تذويبها داخل الثنائية المعتادة «طبقة عمالية / طبقة وسطى». فهل يمكن القول إن الحركات الاجتماعية التي تعرفها فرنسا حاليا تدخل في نطاق الصراع الطبقي، وأننا بالتالي لم نُقتلع عن المحددات والاصطفافات القديمة؟ نعم ولا. نعم إذا اعتبرنا أن الطبقة الوسطى هي التي ستكون الأقل تضررا من قانون إصلاح المعاشات، بحكم عدم معاناتها بشكل يفوق المطاق من ظروف عمل قاسية. نعم لأن غالب من بدأ العمل في سن مبكرة يرى أنه سيتحسس «موضع اللطمة» أكثر لأن «مسيرته الطويلة» كما صنفت إداريا ستكون أطول. ونعم أيضا استتباعا للتأويل ذاته الذي عرضناه للتو، وهو أن الصراع الطبقي صراع مع الطبقة السياسية الحاكمة بامتياز، خاصة إذا ما اعتبرنا أن الرأي العام زاد تريثا أكثر فأكثر من ساسته، حتى صار يحلم من جديد بمجتمع «من دون طبقات».
حلم، عكسته أجواء مايو 68 تحت عنوان «المساء الكبير»، أي إلغاء المجتمع الرأسمالي ليحل محله المجتمع الجديد، الذي حمل هو الآخر عنوانا شهيرا: «الغد – المغني». لكن هل يمكن أن تتمرأى في منظار التاريخ احتجاجات اليوم وتظاهرات الغد؟ ليكون الأمر كذلك لا بد أن تهتز أركان الدولة، ويعرف تماما آخر دعاة تطبيق هذه النظرية، جان لوك ميلنشون، أن «حل البرلمان» أو «طرح القانون الجديد أمام الاستفتاء» – أمر تكذبه البنية المؤسسية بطبيعتها، ما دام اليمين التقليدي يمنح للأغلبية النسبية الحاكمة القدر الكافي من الأصوات لتتحول إلى أغلبية مطلقة تمرر القانون أمام البرلمان، لكن، على هذه الخلفية، هل بقي للزخم الاجتماعي معنى؟ نعم لا يزال له معنى. معنى للضغط على إصلاح يحمل نواقص عدة، مثل اعتماد تقليص الإنفاق العام كمعيار تتفرع عنه كل القرارات الأخرى ومنها، بصورة تناقضية، تخفيض الضرائب، التي لو رفعت نسبياً، لزادت من مدخرات الدولة فقلصت فترة مساهمة المواطنين في صندوق التقاعد.
كل المعاناة في فرنسا تكمن في عجزها عن دخول مرحلة المواءمة بين الليبرالية وتدبير الدولة للشأن العام، حيث تترك للأولى مبادرة خلق جل الوظائف وللثانية رفع جودة القطاع العمومي. فنعم لإصلاح المعاشات لأنه إصلاح لا بد منه، لكن مجرد تفسيره بأن علينا العمل لمدة أطول، ومجرد بناء الحسابات على تقديرات مجلس توجيه المعاشات لسنوات 2030 (وهو المجلس ذاته الذي أكد على صلاحية الحسابات حاليا) أخطاء تتوج الأخطاء السابقة، لأنها تصب جميعا في خانة قراءة للتاريخ تميل أكثر إلى الثابت منه إلى المتحول.
القدس العربي