فرنسا والصراع من أجل البقاء في افريقيا
في أحد التصريحات المثيرة للرئيس الفرنسي الراحل جاك شيراك يقول فيها (إنه يتعين علينا أن نكون صادقين ونعترف بأن جزءا كبيرا من الأموال تأتي إلى بنوكنا على وجه التحديد، هي من استغلال موارد القارة الافريقية). وفي تصريح آخر لا يقل إثارة عن سابقه يقول (إنه من دون افريقيا، ستنزلق فرنسا إلى مرتبة دول العالم الثالث). فهل يسمح صانع القرار الفرنسي بالمنافسة الروسية والصينية في هذه القارة؟ وهل يتغاضى عن تراجع نفوذه فيها؟ وما أثر التاريخ الاستعماري على الواقع الحالي؟
في مؤشرات واضحة على تراجع مكانة فرنسا في افريقيا في المجالات الاقتصادية والسياسية والعسكرية والثقافية. ولأن الدول الاستعمارية تبقى تصارع من أجل البقاء، حتى في ظل خسارة مواقعها، فقد أعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في 27 فبراير/ شباط المنصرم، عن ملامح استراتيجية فرنسية جديدة تجاه القارة الافريقية، التي يبدو أنها تحوز قدرا كبيرا من الأهمية الاستثنائية في رؤيته السياسية، لذلك هو الرئيس الفرنسي الوحيد الذي زار القارة 18 مرة منذ توليه الرئاسة في عام 2017.
لكن افريقيا اليوم ليست قلعة فرنسية حصينة كما كانت بالأمس، ففي المجال الاقتصادي تعرضت باريس إلى انتكاسات كبرى، رغم أنها ثالث مستثمر في افريقيا بمجموع 1155 مجموعة استثمارية و2100 شركة فرنسية كبرى، فقد اندفعت الصين وتركيا وإسبانيا اقتصاديا في القارة، ونجحت هذه الدول في إيجاد موطئ قدم لها، حيث باتت الصين الشريك الاقتصادي الاول لافريقيا. وسيطرت تركيا على الأسواق الجزائرية والليبية والسنغالية. واستحوذت إسبانيا على أسواق أخرى فيها، كما أن التهديد الأكبر للنفوذ الاقتصادي الفرنسي بات في مؤشرات التمرد الحقيقي ضده، داخل التكتلات الاقتصادية المحلية الافريقية. أما على صعيد القوى الناعمة والصلبة، فقد تعرضت فرنسا إلى خسائر أيضا في هذين الجانبين، فاللغة الفرنسية التي هي أبرز مظاهر قوتها الناعمة، والتي يتحدث بها حوالي نصف الدول الافريقية، وتستخدمها باريس في السياسة الثقافية الموجهة نحو دول القارة، فقد أصابها الضعف أيضا، فدول شمال افريقيا بدأت تشعر بأن هذه اللغة هي إحدى وسائل الاستعمار القديم في السيطرة عليها، لذلك باشرت بسن القوانين والتشريعات التي تحد من تأثير هذا العامل. أما على صعيد القوة الصلبة، فقد تعرضت هي الأخرى إلى هزائم كبرى في القارة الافريقية. فالقوات الفرنسية المتمركزة في غرب وشرق ووسط القارة، تراجع عديدها إلى النصف تقريبا وبات حضورها مقتصرا على القواعد العسكرية لبعض الدول الافريقية، التي ما زالت في تحالف وثيق مع باريس. والسبب في ذلك هو حصول انقلابات عسكرية في بعض الدول الافريقية، واختيارها التعامل مع روسيا بديلا عن فرنسا. كما أن مرتزقة فاغنر الروسية بات لها تأثير واضح في عدد من دول القارة، لكن العقلية الاستعمارية المسيطرة على صانع القرار الفرنسي، تجعل ماكرون يراهن على عدم وجود خصومة افريقية مع فرنسا، ولا صداقة افريقية ـ روسية، ولا صداقة افريقية ـ صينية. لذلك هو يقول (في يوم من الأيام سوف يفهم الافارقة أن خصومهم هم في الواقع مرتزقة روس، ومستثمرون صينيون، أكثر بكثير من المستعمرين الأوروبيين السابقين). لكنه يعود ليعترف بأن التبشير بشراكة فرنسية افريقية جديدة صعب، لأنها تصطدم بعامل الثقة المعدوم من قبل الافارقة بالسياسة الفرنسية، حسبما يعتقد. وهذا صحيح تماما حيث تجلّى بوضوح في خطوات عسكرية وسياسية اتخذتها دول افريقية، كان آخرها إلغاء اتفاق المساعدة العسكرية مع فرنسا من قبل دولة بوركينافاسو، الموقّع في ستينيات القرن المنصرم، وطلبها سحب القوات الفرنسية من أراضيها. كما واجه ماكرون احتجاجات شعبية واسعة في زياراته الأخيرة إلى الدول الافريقية. وتعرضت العلاقات الفرنسية الجزائرية، والفرنسية المغربية، إلى اهتزازات واضحة، بعد أن شعر قادة الدولتين بأن فرنسا تريد الإبقاء على سياستها التقليدية تجاههما، من دون تقديم تنازلات، وتحقيق مصالحها على حساب مصلحتيهما. إن حلحلة الإخفاقات الفرنسية في القارة الافريقية ليست بالأمر الهيّن، لأنه منذ عام 2013 عندما تدخلت فرنسا في مالي، لدعم النظام وحتى اليوم، والعمليات العسكرية الفرنسية المتتالية تكللت بالفشل الذريع. وبرزت قوة العناصر الجهادية والمجموعات الأخرى المتمردة في مالي وبوركينافاسو، وأجبرت فرنسا على الانسحاب. وهذه نكسة كبيرة لباريس لأن منطقة الساحل كانت تاريخيا المربع الذهبي الموالي لفرنسا. وتبعت هذه النكسة أخرى في افريقيا الوسطى، التي تمركزت فيها قوات فاغنر. وعلى الرغم من كل ذلك فإن استيعاب هذه الخسائر ضرورة، وليس اختيارا فرنسيا. لذلك هي اليوم تعيد النظر في سياساتها وتركّز على دول أخرى في القارة. ومن هنا جاءت جولة ماكرون الأخيرة في مناطق نهر الكونغو، التي لم تكن مناطق نفوذ لها في الماضي، كما أن تصريحاته التي يقول فيها، إنه يمكن لأوروبا أن تمنح القارة مساعدات وشراكات في مجال الأمن والتغيير المناخي، وغيرها من التحديات الديموغرافية المتعلقة بالشباب، والتي لا تستطيع الدول الاخرى تقديمها، أتت لتصب في الهدف نفسه وهو تعزيز النفوذ. لكن هل تُقنع هذه التصريحات الدول الافريقية، التي ذهبت في علاقات عسكرية وأمنية وشراكات اقتصادية، مع بلدان أخرى بديلا عن فرنسا وأوروبا؟
على ماكرون أن يترجم التصريحات إلى أفعال على أرض الواقع، من خلال مشاريع تأخذ بعين الاعتبار المصالح الثنائية، والخروج من الشروط المجحفة والتعجيزية بحق الدول الافريقية، التي لم تجد التعامل نفسه من أطراف دولية أخرى. فالقارة السمراء واعدة، وهي محور لتنافسية دولية كبيرة، ولا يمكن أن تكون حكرا على أحد دون سواه. في الماضي أبان الحرب الباردة كان هناك في الواقع تقاسم للنفوذ بين الدول الغربية خاصة فرنسا وبريطانيا بإشراف أمريكي. وكان هنالك وجود للاتحاد السوفييتي، بعد ذلك أتت الصين والآن تعود روسيا، وهناك دول إقليمية تهتم بالمنطقة أيضا. إذن المجال مفتوح أمام جميع القوى، لكن يبدو أن باريس تتمسك بنظرية القوس والسهم في علاقاتها مع افريقيا، فامتداد وجودها هناك على مدى قرون جعلها تثق بأن في كل مرحلة يتراجع فيها نفوذها، تتوفر فيها أيضا إمكانيات لانطلاقة مستقبلية جديدة، يدفعها في هذا التفاؤل وجود العديد من النخب والكفاءات الافريقية التي ترعرعت وتطورت في فرنسا، والتي اعتمدتها الحكومات الفرنسية المتعاقبة كجسور للتعامل مع بلدانهم الأصلية.
يبدو أن ماكرون يريد الانتهاء من الانخراط العسكري القوي في افريقيا، حسب قوله، والتحول نحو التعاون والتدريب العسكري، والتبادل الثقافي ومشاريع الشباب، وعدم التدخل في الشأن الافريقي بعد اليوم، وبدلا من العلاقة مع الحكام سيتم التركيز على الشباب، وهذه هي الأبواب نفسها التي دخلت منها الصين وروسيا الى افريقيا. فهل سينجح؟
القدس العربي