المال السايب الذي يُعلًم السرقة في الجزائر
مثل جزائري مشهور، يقال عن النهب الذي يطال المال السايب، العمومي في الغالب، الذي لا يحُمى من قبل أصحابه والمكلفين بتسييره والاشراف عليه. يبقى في متناول أي لص عابر يمر على الطريق. تذكرت هذا المثل الشائع عندنا وأنا أستمع الأسبوع الماضي لخبر توقيف نسيم ضيافات الوزير المنتدب السابق للمؤسسات المصغرة، لدى رئيس الوزراء الذي عينه الرئيس الجديد عبد المجيد تبون لمدة ثلاثة وثلاثين شهرا بين يناير/كانون الثاني 2020 وسبتمبر/أيلول 2022- لتسيير ملفات عديدة كان من بينها، ملف الدعم المالي السخي الذي قررته الحكومة للمؤسسات الاقتصادية الصغيرة الموجهة للشباب، التي كان يفترض أن تحل مشكل البطالة لديه وتساهم في النمو الاقتصادي.
التوقيف الذي تم على خلفية تهم فساد واستغلال النفوذ، كما جاء في الإعلام، يكون وراءها هذا الوزير الشاب – من مواليد 1984- لصالح أفراد عائلته، على غرار زوجته وأخوين اثنين – أمرت العدالة بوضعهم تحت الرقابة القضائية، بالإضافة إلى مجموعة كبيرة من الإطارات الذين تم إيداع بعضهم السجن، في انتظار ما ستسفر عنه المحاكمة من تفاصيل.
فساد لا يمكن تصور بداية القضاء عليه وتفكيكه من دون الإصلاح الجذري للنظام السياسي، بالديمقراطية التي يفترضها وما يتطلبه من بناء مؤسسات قوية
قضية فساد جديدة تثير عدة أسئلة سنحاول التطرق لها، بداية من الخصائص التي تميز الوزير ذاته وظروف وصوله إلى هذا المنصب، بالإضافة إلى ما تعلق بالمحيط السياسي العام، وعلاقته بالتسيير الريعي الذي ما زال سائدا للشأن الاقتصادي الوطني. فنحن أمام وزير شاب من دون خلفية سياسية حزبية، تم الترويج له عند وصوله للحكومة كممثل لهذا المجتمع المدني الذي كان يعول عليه في إنتاج نخبة بديلة للنخبة القديمة المتهمة بكل الموبقات. شاب بمؤهلات علمية ومهنية متواضعة جدا – حاصل على ليسانس فرنسية من جامعة داخلية ـ وبعض التجربة في تسيير مؤسسة اقتصادية عائلية داخل غابة القطاع الخاص، الذي يسود داخله فساد كبير، تحول مع الوقت إلى ثقافة تسيير لم يفلت منها إلا القليل والنادر من رجال الأعمال. قطاع خاص بينت كل الدراسات التي تمت له على دور العائلة في إنشائه وتسييره والدفاع عنه بالحق والباطل. أبرزها في المدة الأخيرة الكثير من المحاكمات التي تمت لوزراء متهمين بالفساد، تم الحكم عليهم بالسجن ونزع ملكيتهم، هم وزوجاتهم وأبناؤهم وبناتهم، في أكثر من قضية مرت أمام العدالة، تكلم عنها المواطن الجزائري منذ سنوات طويلة، قبل أن تصل إلى العدالة.
وزراء ومسؤولون كبار، مدنيين وعسكريين، لا يسمح هذا الحيز الضيق بعرض قائمة أسمائهم الطويلة – حوالي ثلاثين وزيرا في السجن، بالإضافة إلى ثلاثة رؤساء حكومات، حسب بعض المعطيات الإعلامية التي تبقى في حاجة إلى ضبط، محاكمات ارتاح لها الجزائريون، وهم يرفضون ان تتم مقايضتهم بها على حساب مطالب الحراك السياسية، كما حاول أصحاب القرار القيام بذلك، خلال الجو الذي تم فيه إبعاد بوتفليقة، لإيمانهم بأنها قطرة فقط في بحر الفساد الذي ينخر النظام الجزائري. لم يكن من المقبول الكلام عنه ولا التشهير به قبل انطلاق الحراك الذي ساعد على كشف المستور، بدءا من أسماء الأوليغارشية المحيطة بالرئيس المخلوع، التي كان يديرها الأخ المستشار وصديقه رئيس كونفدرالية رجال الأعمال علي حداد، وبعض الوزراء وضباط الجيش الكبار الذين تمكنوا من تهريب أموالهم المنهوبة الى الخارج، ما زالت العدالة الجزائرية تنتظر الوصول إليها، كما وعد رئيس الجمهورية عدة مرات بذلك في لقاءاته الإعلامية، من دون أن يضمنها داخل الالتزامات 54 التي جاءت في برنامجه الانتخابي لعهدته الأولى التي ستنتهي في نهاية 2024. علما بأن الوزير ضيافات مثل الكثير من وزراء هذه المرحلة، لم يكن يحلم بالوصول الى موقعه الحكومي لولا الظرف المضطرب الذي كان يمر به النظام السياسي خلال فترة الحراك وما بعدها مباشرة.. سمحت للكثير من اللوبيات باقتراح بيادق لها داخل مؤسسات الدولة المركزية كالحكومة، حين توقفت فيه واضطربت آليات الانتقاء المعروفة للوزراء ـ وما زالت- التي كان معروفا بها النظام السياسي الجزائري تقليديا. حالة الوزير نسيم ضيافات الأخيرة التي تؤكد استشراء الفساد داخل مؤسسات النظام السياسي، الذي ما زال يعتمد كقاعدة له على اقتصاد ريعي، غير مرتبط بزمن محدد، كما يحاول الخطاب السياسي والإعلامي الرسمي الترويج له، في إحالة الى فترة الرئيس بوتفليقة التي يتم التركيز عليها. فساد تقوم ثقافة سياسية بإسناده وتعميمه، ترتكز هي الأخرى على ممارسات سائدة داخل النسق الاقتصادي والاجتماعي، انطلاقا من العائلة، الحاثة عليه والمدافعة عنه وهي تتعامل مع وصول أفرادها إلى مراكز القرار كفرصة نهب للمال العام وتحويل طابعه القانوني من مال عام إلى خاص.. كما تظهره السيطرة التي بدأ القطاع الخاص فرضها في الجزائر، بدءا من مسألة التوظيف التي تحولت لصالحه -61%- في ظل سيطرة ثقافة الفساد المجتمعية، التي انتشرت كالوباء بين الجزائريين والجزائريات، وهي تتغاضى عن ظهور علامات الغنى الفاحش والسريع على أفرادها، الذي تباركه كعلامة نجاح و»قفازة» يفتخر بها الجميع، ولا يسأل عن مصدرها، ما يقف حاجزا أمام كل السياسات التي يمكن ان توضع لمحاربة الفساد والحد منه على الأقل، وهو يجد هذا الدعم من مؤسسات المجتمع والدولة على رأسها العائلة والمحيط الاجتماعي القريب المتستر عليها.
فساد لا يمكن تصور بداية القضاء عليه وتفكيكه من دون الإصلاح الجذري للنظام السياسي، بالديمقراطية التي يفترضها وما يتطلبه من بناء مؤسسات قوية يكون على رأسها، عدالة مستقلة وإعلام مهني حر وبرلمان ممثل تفرزه انتخابات شفافة تدعمها أحزاب سياسية متنوعة حاضرة شعبيا، بمواطنين أحرار، كما حصل في التجارب الناجحة التي حاربت الفساد، ونجحت في التغلب عليه عبر العالم. باختصار يكفي تقليد هذه التجارب الناجحة، عمل ممكن اعتمادا على التحولات الإيجابية التي يعرفها المجتمع الجزائري نفسه، فشلت حتى الآن النخب السياسية في ترجمتها الى مشروع قابل للتنفيذ، رغم الإلحاح الشعبي عليه كمفتاح لبداية تغيير النظرة الشعبية لمؤسسات الدولة الوطنية ونخبها الحاكمة.
كاتب جزائري
القدس العربي