تخبّط قيس سعيّد الاقتصادي وتبعاته
يوم الخميس الماضي، المصادف 6 أبريل/ نيسان وهو اليوم الذي لقي فيه حتفه سنة 2000 الحبيب بورقيبة، مؤسس الدولة التونسية ما بعد الاستعمارية، رأى الرئيس التونسي الحالي، قيس سعيّد، أن يحضر احتفالاً بتلك الذكرى في مدينة المنستير حيث يوجد الضريح الذي أشرف سلفه الراحل على بنائه لنفسه. وقد انتهز سعيّد هذه المناسبة كي يذكّر بإحدى أهم الانتفاضات التي واجهت رئاسة بورقيبة الطويلة (1957-1987) ألا وهي «انتفاضة الخبز» التي اندلعت في نهاية عام 1983 وتواصلت في بداية العام التالي إلى أن تراجع بورقيبة عن قرار رفع الدعم عن سعر الخبز، وهو القرار الذي فجّر بركان الغضب الشعبي. وقد سقط خلال تلك الانتفاضة أكثر من مئة شهيد من جرّاء وحشية القمع الذي واجه به الحكم البورقيبي الاحتجاجات الجماهيرية.
كان قرار رفع الدعم عن سعر الخبز والطحين تلبية لأحد الشروط التي وضعها آنذاك صندوق النقد الدولي في إطار سياسات التقشّف التي فرضها على حكومات البلدان النامية ضمن الحزمة المعروفة باسم «برامج الإصلاح الهيكلي» والرامية إلى تخفيض مديونية تلك البلدان من خلال تخفيض نفقاتها الحكومية، ذلك بوحي من الوصفات النيوليبرالية المعادية للسياسات التنموية القائمة على الاستدانة. والحال أن سعيّد وحكومته، التي تترأسها اسمياً نجلاء بودن، واجها معضلة مماثلة لتلك التي واجهها بورقيبة وحكومة محمد مزالي قبل أربعين عاماً، وإن كانت خطورة الأزمة الحالية أعظم. فقد بلغت مديونية تونس الراهنة ما يعادل 80 بالمئة من ناتجها المحلّي الإجمالي، وذلك في سياق من انخفاض النمو الاقتصادي إلى ما يقارب الركود وتواصُل ارتفاع الأسعار بمعدّلات عالية واستمرار تفاقم مشكلة البطالة، لاسيما بطالة الشباب التي تناهز 40 بالمئة حسب الأرقام الرسمية، وهي تعكس صورة مخفّضة عن الحقيقة.
في هذا السياق، فإن الحكومة التونسية التي شكّلها سعيّد إثر انقلابه على البرلمان في صيف 2021 قد دخلت في مفاوضات مع صندوق النقد الدولي بغية الحصول على قرض تناهز قيمته مليارين من الدولارات، ليس لأهمية المبلغ وهو أدنى مما تحتاج إليه الدولة التونسية كي تتمكن من صرف رواتب موظفيها ومستخدميها مع تسديد ما يترتب عليها من جراء ديونها السابقة، بل لأن توقيع الاتفاق مع صندوق النقد، مصحوباً بتنفيذ ما ينصّ عليه من سياسات تقشفّية، إنما هو الشرط الذي لا غنى عنه كي تحصل الدولة التونسية على قروض أخرى، سواء من الدول الأوروبية أو من الدول العربية الخليجية، علماً بأن المملكة السعودية ودولة الإمارات المتحدة قد توقفتا عن منح القروض لتونس بانتظار ما ينجم عن مفاوضاتها مع الصندوق.
صادق قيس سعيّد في نهاية العام الماضي على قانون الموازنة للعام الجديد الذي تضمن جملة من الإجراءات المتماشية مع شروط الصندوق، لاسيما رفع الدعم عن سعر المحروقات وهو أهم من حيث الحجم الاقتصادي من دعم المواد الغذائية، وكذلك تقليص عدد المستخدمين الحكوميين ورواتبهم
والحقيقة أن الحكم التونسي كان سارياً على درب الانصياع لإملاءات صندوق النقد. فقد صادق قيس سعيّد في نهاية العام الماضي على قانون الموازنة للعام الجديد الذي تضمن جملة من الإجراءات المتماشية مع شروط الصندوق، لاسيما رفع الدعم عن سعر المحروقات وهو أهم من حيث الحجم الاقتصادي من دعم المواد الغذائية، وكذلك تقليص عدد المستخدمين الحكوميين ورواتبهم، الذي حرصت الحكومة التونسية على تحقيقه منذ تشكيلها في خريف 2021. فإن هذه السياسة التي اتبعتها الحكومة هي بالضبط ما حدا الاتحاد العام التونسي للشغل، الذي يمثّل بصورة رئيسية المستخدمين الحكوميين، على الارتداد ضد حكم سعيّد بعد أن كان مسانداً له منذ انقلاب صيف 2021.
وقد شكّلت معارضة الاتحاد لرضوخ الحكومة التونسية لإملاءات الصندوق العامل الرئيسي الذي جعل سعيّد يتردّد إزاء رفع الدعم عن المواد الغذائية، وفي طليعتها الخبز، خوفاً من تكرار سيناريو «انتفاضة الخبز». ومن المعلوم أن تلك الانتفاضة كانت التوطئة الأهم لإطاحة زين العابدين بن علي بالحبيب بورقيبة في عام 1987، كما أن تونس شهدت منذ ذلك الحين ثورة أطاحت ببن علي نفسه، الأمر الذي يجعل كل من يتولّى رئاسة البلاد منذ ذلك الحين يخشى انفجار الغضب الشعبي في وجهه. لذا رأى سعيّد أن ينتهز فرصة إحياء ذكرى بورقيبة للتذكير بالانتفاضة التي هبّت في وجه سلفه، تبريراً لتراجعه عن قبول ما اشترطه صندوق النقد على تونس. طبعاً، كان حرياً بسعيّد أن يحيّي ذكرى شهداء «انتفاضة الخبز» بدل ذكرى الرئيس الذي أشرف على قمعها الوحشي، لكنّه منسجم مع منظوره للتاريخ الذي يدّعي النطق باسم الشعب بينما ينتمي إلى السلسلة الطويلة من الرجال الذين فرضوا حكمهم الفردي الاستبدادي بحجة تمثيلهم الأوحد لإرادة الشعب.
وقد أنهى سعيّد التفاوض بين حكومته وصندوق النقد وهو يواجه تصاعداً حاداً في التذمّر من حكمه على خلفية تدهور الأوضاع المعيشية، فتصدّى لذلك في الآونة الأخيرة بحملة اعتقالات وتضييق متزايد على ما تبقّى من مكاسب الثورة التونسية في مجال الحريات السياسية. كما أن سعيّد رأى أن يعيّن كبش فداء صرفاً للأنظار عن تخبطّ سياسته الاقتصادية، فشنّ حملة عنصرية شنعاء على المهاجرين السود، أدّت بعكس ما توقّعه إلى تجميد البنك الدولي، شقيق صندوق النقد، لشراكته مع تونس قبل شهر. ومن المرجّح أن الصندوق تضامن مع البنك في تحذير الحكم التونسي من المضي في مثل هذه السياسات الخطيرة. فقد تضافرت هذه العوامل جمعاء كي تؤدي إلى قرار سعيّد الأخير.
أما وقد انتهى الأمر بسعيّد إلى التراجع عن التفاوض مع الصندوق على شروط الاقتراض، فليس ذلك من باب القناعات وامتلاك نهج غير النهج الذي سلكه حكمه حتى الآن، بل من باب الخوف من الجماهير. والحال أن لا سياسة بديلة لديه، الأمر الذي يُنذر بأن تتفاقم بشدّة الأزمة المعيشية والاقتصادية في تونس من جرّاء تخبطّه السياسي والاقتصادي، وتشهد قيمة الدينار التونسي هبوطاً سريعاً من شأنه أن يفاقم ارتفاع الأسعار والتدهور المعيشي. أما تصريح محمود بن مبروك، الذي يدير جوقة أنصار دكتاتور تونس الجديد، بأن تونس ستتوجّه لمجموعة دول «بريكس» (البرازيل وروسيا والهند والصين وأفريقيا الجنوبية) تعويضاً عن صندوق النقد الدولي (الذي تشكّل الصين أهم أعمدته بعد الولايات المتحدة، بالمناسبة) فأشبه ما هو بالتائه في الصحراء بعد فقدان منحى السير، الذي يشير إلى السراب مخرجاً من تيهه.
كاتب وأكاديمي من لبنان
القدس العربي