أمريكا تسعى الى إنقاذ دولة إسرائيل من حكومتها
لم تتأكد بعد صحة الأنباء، التي تناقلتها بعض وسائل الإعلام، عن زيارة مرتقبة لرئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو إلى واشنطن، قبل نهاية الشهر الحالي. ولكن حتّى لو تمت الزيارة فعلا، فهي لن تنهي التوتر القائم بين الإدارة الديمقراطية في واشنطن وحكومة اليمين المتطرّف في إسرائيل، فالخلافات بينهما كثيرة وعميقة. ومع شدّة الخلاف بين الحكومتين، تبقى العلاقة بين الدولتين، في المدى المنظور على الأقل، قوية ومتينة وحميمية. وتستند هذه العلاقة إلى مصالح استراتيجية وإلى ما يسمّى بالقيم المشتركة. ومع ذلك يسود النخب الإسرائيلية قلق شديد من إسقاطات مشروع التغييرات القضائية وسياسات حكومة نتنياهو عموما على العلاقات مع الولايات المتحدة في المجالات الأمنية والسياسية والاقتصادية، وعلى ارتباط يهود الولايات المتحدة بالدولة الصهيونية. وهي تطلب من الإدارة في واشنطن الضغط على حكومة إسرائيل للامتناع عن اتخاذ خطوات قد تضر بعلاقة أمريكا بإسرائيل.
هل يكتفي بايدن بضغوطه الناعمة في حين يناشده يهود أمريكا والليبراليين الأمريكيين والمعارضة الإسرائيلية أن يفعل المزيد وأن يكبس نتنياهو بلا رحمة
انتقادات أمريكية
لم يسبق أن توالى هذا الكم من التصريحات الأمريكية الرسمية وغير الرسمية حول شأن إسرائيلي «داخلي»، مثل سن قوانين وتعديلات في بنية الحكم، كما حدث في الأشهر الأخيرة. والقاسم المشترك لكل الانتقادات الموجهة لحكومة نتنياهو وممارساتها، أن كل المتحدثين أكّدوا صداقتهم لإسرائيل وحرصهم الشديد عليها وعلى أمنها وازدهارها، وقبل أن يقولوا ما عندهم عادوا وشدّدوا على أن العلاقة بالدولة الصهيونية غير قابلة للانكسار مهما حدث. تمحورت انتقادات كبار المسؤولين الأمريكيين لمشروع التغييرات القضائية في إسرائيل، حول أنّها أولا لا تنسجم مع المفهوم الأمريكي للقيم الديمقراطية، وثانيا أن هذه التغييرات لا تستند إلى توافق واسع بين القوى السياسية في الدولة الصهيونية. وكانت اللهجة الأمريكية أكثر حدّة في الاتصالات الثنائية، وتضمّنت طلبا صريحا بالعدول عن التغييرات، وبعدم القيام بأي خطوة بهذا الاتجاه إلّا بعد الاتفاق مع المعارضة، خلاصة الحديث أن الإدارة الأمريكية تريد أن تنقذ إسرائيل من أفعال حكومتها. بالنسبة للإدارة الأمريكية الحالية، فإن التغييرات في الجهاز القضائي الإسرائيلي، تضرب أحد الأسس التي تقوم عليها العلاقة الخاصة بين الولايات المتحدة وإسرائيل وهي ما يسمّى بالقيم الديمقراطية المشتركة. وبهذا المفهوم فإن إسرائيل هي امتداد للثقافة السياسية والمجتمعية الأمريكية، وتخشى النخب الليبرالية في الولايات المتحدة من أن يصيب هذا الامتداد عطب يضر بصورة إسرائيل «الديمقراطية الليبرالية المتنوّرة». الغالبية الساحقة من الانتقادات الأمريكية لم تنبع من عدائية لإسرائيل، بل جاءت عكس ذلك من منطلق الحرص على الدولة الصهيونية ووفق منطق «على قد المحبة العتب كبير».
خلفيات
تكمن أهمية الانتقادات الأمريكية الأخيرة لحكومة نتنياهو وسياساتها، بأنّها تأتي على خلفية تحوّلات مهمة على الساحة الدولية وداخل الولايات المتحدة وحتى داخل إسرائيل نفسها. وإذ تعالت داخل الولايات المتحدة دعوات لإعادة تقييم العلاقة وارتفعت أصوات مهمة في الكونغرس بربط الدعم الأمريكي لإسرائيل بمواقفها وبممارساتها، فإن هذه الأصوات قد ترتفع أكثر مستقبلا، وقد يشهد الحلف الأمريكي الإسرائيلي بعض التغيير. فما هي هذه التحوّلات التي من الممكن أن تؤثّر في العلاقة الأمريكية الإسرائيلية؟
أولا، الولايات المتحدة تنسحب من المنطقة واهتمامها بها وبنفطها يتراجع باستمرار. حتى الآن لم يمس هذا الانسحاب العلاقات مع حليفتها المركزية، لكن الخريطة الاستراتيجية الإقليمية تتغيّر، وهذا قد ينقلب على إسرائيل، التي تحاول جاهدة استدراك الحال، واستغلال الظرف الجديد لعرض خدمات التحالف على بعض الأنظمة العربية، وتعمل على إقناع المؤسسة الأمنية الأمريكية بأن إسرائيل هي ذخر استراتيجي يجب زيادة دعمه تعويضا عن الانسحاب الأمريكي.
ثانيا، على الصعيد العالمي هناك صعود لقوّة الصين وهبوط في وزن الإمبراطورية الأمريكية، وهذا يلقي ظلاله على إسرائيل أيضا، وهو في غير مصلحتها استراتيجيا.
ثالثا، التراجع في مكانة إسرائيل في المجتمع الأمريكي يتواصل، خاصة بين الديمقراطيين. فقد أظهرت نتائج استطلاع «غالوب» هذا الشهر أنه في صفوف الديمقراطيين يصل التعاطف مع فلسطين إلى 49% مقابل نسبة 39% مع إسرائيل، أي بفارق 11% لصالح فلسطين، بعد أن كان عام 2016 بفارق 35% لصالح إسرائيل، وهذه معطيات لن يستطيع أي قائد ديمقراطي تجاهلها. كما لا يستطيع تجاهل صعود التيار التقدمي في الحزب الديمقراطي. وإذا أخذنا بعين الاعتبار أن المعطيات بين الشباب هي أكثر دراماتيكية لصالح فلسطين، فنحن أمام تحوّل كبير ومهم إذا جرى استثماره بالشكل الصحيح.
رابعا، تجري تغييرات وازنة في صفوف يهود أمريكا، الذين يبتعدون أكثر فأكثر عن إسرائيل، وتشعر غالبيتهم بنفور شديد من نتنياهو ومن حكومة اليمين المتطرّف التي يرأسها. ولم يعد للدعم الأعمى لإسرائيل، ذلك القبول والاستحسان بين يهود الولايات المتحدة. المهم أيضا أن الشباب اليهودي أصبح بغالبيته، إما لا مباليا تجاه إسرائيل، أو فاعلا ضد سياساتها خاصة في الجامعات الأمريكية، التي تشهد بعضها تعاونا بين شباب فلسطيني ويهودي ضد السياسات الإسرائيلية.
نتنياهو الحل والمشكلة
على المدى البعيد من الصعب التنبّؤ بما ستؤول إليه العلاقة الإسرائيلية الأمريكية، التي اعتمدت حتى الآن على عوامل ومحرّكات متعدّدة، وحتى لو «تعطّل» محرّك ستظل تعمل بقوّة المحرّكات الأخرى، وكأنّ شيئا لم يكن. ولكن من الواضح على المدى القصير أن الإدارة الديمقراطية في صدام سياسي مع حكومة اليمين المتطرف الإسرائيلية. هذا ليس بجديد، فقد شهدت علاقة الديمقراطيين بحكومات نتنياهو توتَرا شديد أيام كلينتون وأوباما أيضا. وقد ألقى الرئيس الأمريكي السابق بالثقل الأمريكي لإسقاط نتنياهو في انتخابات 1999، بعد أن تبين له أنّه يكذب عليه ويتنصل عن التزاماته ووعوده ولا ينسجم والسياسة الأمريكية في الشرق الأوسط. وبلغ الصدام مع الرئيس أوباما ذروته حين ألقى نتنياهو خطابا في الكونغرس تحدّى فيه السياسة الأمريكية الرسمية، وأظهر بشكل استفزازي انحيازه للجمهوريين، وعلى الرغم من أرث الخصومة بين الديمقراطيين ونتنياهو، راهنت إدارة بايدن عليه كعامل استقرار ظانّةً أنه الأكثر اعتدالا في حكومة يمينية موغلة في التطرّف. واتخذت الإدارة قرارا معلنا بأنها تتعامل مع نتنياهو وليس مع وزرائه لتفادي أي تواصل مع بن غفير وسموتريش. واستثني وزير الأمن الإسرائيلي، يوآف غالانت، من هذه المعادلة، حيث راهن الأمريكان على أنّه سيشكل عامل استقرار واعتدال بمقاييسهم. وقد جنّ جنون الإدارة الأمريكية حين تيقنت بأن نتنياهو ليس الحل، بل هو المشكلة، خاصة وأنّه يدفع بقوّة الانقلاب على الجهاز القضائي وقام بإقالة غالانت، الذي دعا إلى تجميد تمرير قوانين التغييرات القضائية، وإلى السعي نحو توافق مع المعارضة. من هنا جاءت تصريحات الرئيس الأمريكي جو بايدن، الذي استبعد دعوة نتنياهو لزيارة واشنطن ودعا الحكومة الإسرائيلية إلى التخلّي عن مشروع التعديلات القضائية.
هناك ثلاثة عوامل دفعت نتنياهو إلى فرملة مؤقّتة لمشروع الانقلاب على الجهاز القضائي، وهي تتعلّق بتهديدات النخبة العسكرية وباحتمال التدهور الاقتصادي، وبالضغوط الأمريكية. هذه الثلاثة تغذّي بعضها بعضا، ما جعل نتنياهو يعيد حساباته من جديد ليتفادى أزمة جدية قد تؤدي الى سقوط حكومته. وبعد أن ظهر في البداية أن الولايات المتحدة لم تشتر ألاعيب نتنياهو، جاء العدول عن إقالة غالانت والدخول في مفاوضات مع المعارضة، ليخفف من النفور الأمريكي منه. وإذا صحّت الأنباء عن دعوته لواشنطن، فمن شبه المؤكّد أنه دفع ثمن ذلك بتعهدات معيّنة لإدارة بايدن.
تراقب الولايات المتحدة عن كثب وبقلق بالغ ما تقوم به حكومة اليمين المتطرف، وتخشى أن تجلب ممارساتها وسياساتها ضررا فادحا للدولة الصهيونية، وترى من وظيفتها لجم حكومة نتنياهو. الظروف المحيطة تمكّن بايدن من ممارسة ضغط أشد، لكنّ التزامه للصهيونية يضع له حدودا، فهل يكتفي بايدن بضغوطه الناعمة في حين يناشده يهود أمريكا والليبراليين الأمريكيين والمعارضة الإسرائيلية أن يفعل المزيد وأن يكبس نتنياهو بلا رحمة. هؤلاء جميعا يعتقدون أن على أمريكا أن تنقذ دولة إسرائيل من حكومتها.
كاتب وباحث فلسطيني
القدس العربي