توفيق السويدي وتهجير يهود العراق
تتناقل مواقع التواصل الاجتماعي بين الحين والآخر أخبارا عمادها الإثارة، وقوامها الطعن في بعض شخصيات التاريخ العراقي المعاصر، من دون سند أو أدلة تاريخية دقيقة، ومن هذه الأخبار فساد رئيس الوزراء العراقي توفيق السويدي، الذي سنت حكومته قانون إسقاط الجنسية العراقية عن يهود العراق ممن يودون الهجرة إلى إسرائيل. ويضع بعض الكتاب مجموعة أسباب لذلك كلها تدور في فلك نظرية مؤامرة مفادها، أن حكومات وشخصيات العهد الملكي العراقي رتبت الأمر إطاعة للأوامر الأمريكية والبريطانية، وبالترتيب مع إسرائيل ليتم تهجير يهود العراق، وقد كسبت شخصيات مثل توفيق السويدي ونوري السعيد أرباحا مالية كبيرة نتيجة العمولات التي استحصلوها من عمليات نقل المهاجرين اليهود جوا إلى بلد وسيط ومنه إلى إسرائيل.
منذ ثلاثينيات القرن العشرين حاولت بريطانيا تصفية القضية الفلسطينية عبر عدة جولات من الجهود السياسية والدبلوماسية والعسكرية، وقد طرحت فكرة استبدال الوجود العربي في فلسطين بالجاليات اليهودية الموجودة في البلدان العربية، وتذكر بعض الوثائق البريطانية والمصادر التاريخية أن فكرة تبادل 100 ألف فلسطيني مع العدد نفسه من يهود العراق، كانت قد طرحت على الملك فيصل الأول وعلى الحكومات العراقية في حقبة الثلاثينيات، لكن الفكرة لم تحظ بالنجاح، وفشلت بريطانيا في تمريرها والسبب الرئيس كان ممانعة الحكومات العراقية، وتمسك يهود العراق ببلدهم وعدم رغبة الأغلبية منهم بالهجرة إلى فلسطين.
كان شباب الطبقة الوسطى من يهود العراق ينشطون في بعض الحركات السياسية كالشيوعية والصهيونية، ونتيجة شن الحكومات العراقية في الأربعينيات حملات شعواء من الاعتقالات والتنكيل والإعدامات بحق قيادات شيوعية، نال اليهود بعضا من هذه الإجراءات العنيفة، مما دفع العشرات منهم إلى الهرب خارج العراق بطرق غير شرعية. هذا الأمر دفع حكومة توفيق السويدي الثالثة إلى تقديم مشروع قانون إسقاط الجنسية العراقية لمن يرغب من يهود العراق بالمغادرة النهائية وبطريقة شرعية، وكانت توقعات الحكومة بعد مناقشاتها مع رئاسة الطائفة اليهودية في بغداد أن عدد من سيرغبون في الهجرة لن يتجاوز ثمانية آلاف من أبناء الطبقتين الوسطى والدنيا.
لقد ذيل البرلمان العراقي قانون رقم 1 لعام 1950، المعروف بقانون إسقاط الجنسية العراقية الصادر في 9 اذار/مارس 1950 بالفقرة التوضيحية التالية: «لوحظ أن بعض اليهود العراقيين أخذوا يتذرعون بكل الوسائل غير المشروعة لترك العراق نهائيا، كما أن البعض غادر العراق بصورة غير مشروعة، وبسبب وجود رعايا من هذا القبيل، مرغمين على البقاء في البلاد ومكرهين على الاحتفاظ بالجنسية العراقية، ما يؤدي إلى نتائج لها تأثير في الأمن العام، وإلى خلق مشاكل اجتماعية واقتصادية، فقد وُجد أن لا مندوحة من عدم الحيلولة دون رغبة هؤلاء في مغادرة العراق نهائيا، وإسقاط الجنسية العراقية عنهم، وقد سنت هذه اللائحة لتأمين هذه الغاية». وهنا تجدر الإشارة إلى أن قانون إسقاط الجنسية قد حددت فاعليته ونفاذه بسنة واحدة فقط، أو أقل إذا ارتأت الحكومة إيقاف العمل به، وفي هذه المرحلة دخلت الولايات المتحدة الأمريكية على خط الأزمة وبقوة، وهي التي لم تكن فاعلة بشكل كبير في العراق في تلك الحقبة نتيجة الهيمنة البريطانية على السياسة العراقية. ونتيجة ذلك دعمت عدة جهات أمريكية المنظمات الإسرائيلية العاملة على تهجير يهود المنطقة إلى إسرائيل التي أطلقت على عملية تهجير يهود العراق اسما أسطوريا من التراث الديني اليهودي هو(حسقيل ونحميا)، وأوفدت الحكومة الإسرائيلية شخصا اسمه شلومو هليل، وهو أحد عملاء الموساد، لإتمام هذه المهمة في العراق. وشلومو هليل يهودي عراقي هاجرت عائلته إلى فلسطين عام 1934 وهو بعمر 11 عاما، ونشأ ودرس الإدارة في فلسطين، ومن ثم عمل في الموساد، وقد تسلل إلى العراق في آب/اغسطس 1947 لينظم هجرة غير شرعية لمئة يهودي بغدادي قبل صدور قانون إسقاط الجنسية. وقد عاد هليل إلى العراق ودخله بجواز سفر أمريكي باسم ريتشارد آرمسترونغ، وبصفة ممثل (شركة الشرق الادنى للنقل الجوي)، وقد تمكن من عقد اتفاق مع حكومة توفيق السويدي على احتكار شركته لعملية نقل اليهود المهاجرين إلى بلد وسيط هو قبرص، ومنه يتم نقلهم إلى إسرائيل.
منذ ثلاثينيات القرن العشرين حاولت بريطانيا تصفية القضية الفلسطينية عبر عدة جولات من الجهود السياسية والدبلوماسية والعسكرية
وكما أشرنا سابقا لم يكن توقع الحكومة العراقية، أو رئاسة الطائفة اليهودية في العراق أن يكون عدد الراغبين في إسقاط الجنسية والهجرة سوى بضعة آلاف من جالية تعدادها أكثر من 150 ألفا. وفي وثيقة بريطانية صادرة عن السفارة البريطانية في بغداد مطلع مارس 1950، ذكر السفير البريطاني في تقرير بعثه للخارجية البريطانية: «أبلغني رئيس الحكومة بعد الغداء في 25 شباط/فبراير 1950 أن مجلس الوزراء يعد مسودة قانون من هذا النوع»، ثم يشير بقوله «وسألت رئيس الحكومة عن عدد الناس الذين قد يشملهم القانون، وعما إذا كان ممكنا أن يغادروا بإصدار أمر إداري، فأجاب بأنه يعتقد أن 6 آلاف، أو 7 آلاف شخص سيغادرون، وإن وزير الداخلية (صالح جبر)، يرى أن سن القانون أمر لا بد منه». لقد حددت الحكومة العراقية المبلغ المسموح به لكل من سيغادر العراق من دون عودة، وكان أقل من مئة دينار، ولم تكن هنالك في البداية فكرة تجميد الأموال غير المنقولة المملوكة لمن سيغادرون من اليهود نتيجة الاعتقاد أن العدد سيكون قليلا ومن الطبقات الوسطى والدنيا، لكن حدثت بعض الأمور غيرت مجرى الأحداث، إذ كشفت الوثائق التاريخية، والمذكرات الشخصية، أن جهاز الموساد الإسرائيلي عمل على شن حملة ترويع ليهود العراق بغية دفعهم للهجرة، وكانت النتيجة ارتفاع عدد المهاجرين إلى حوالي 130 ألفا. وكشف ملف الشرطة العراقية المعنون (الإرهابيون الصهاينة) الصادر عام 1952 برقم 37/92 ، حصول خمس حوادث تفجير، ابتدأت بالانفجار الذي وقع بتاريخ 8 نيسان/أبريل 1950 بالقرب من كازينو البيضاء في شارع أبي نؤاس، نتيجة استعمال قنبلة يدوية، تلاه انفجار حدث عند كنيس مسعودة شنطوب بتاريخ 14 كانون الثاني/يناير 1951 بقنبلة يدوية أيضا، ومن ثم انفجار في مكتب الاستعلامات الأمريكي في شارع الرشيد في 19 مارس 1951، وكذلك حادث انفجار وقع خارج بناية شركة لاوي في 6 أيار/مايو 1951 الذي استعملت فيه مادة متفجرة، واختتمت الحوادث بالتفجير الذي وقع قرب بناية ستانلي شعشوع في شارع الرشيد بتاريخ 10 حزيران/يونيو 1951 والذي استخدمت فيه مادة متفجرة أيضا.
أشار عدد من الكتاب معتمدين على التنويه الذي ذكره شلومو هليل في مذكراته حول رشوة عدد من كبار المسؤولين العراقيين لتسهيل مهمة نقل المهاجرين اليهود عبر دفع نوع من العمولات من شركة الشرق الأدنى للنقل الجوي، ويذكر أن توفيق السويدي كان من بين هؤلاء المسؤولين. لكن باحثا حصيفا ومدققا مثل الفلسطيني عباس شبلاق يشكك في هذه المعلومة في كتابه (هجرة أو تهجير، ظروف وملابسات هجرة يهود العراق) لعدم توفر مصادر أو وثائق مستقلة وموثوقة تؤكد حدوث عمليات فساد، بالإضافة إلى ذلك يشير عدد من الباحثين إلى تعنت رموز حكومة عبد الكريم قاسم مع رجال الحكم الملكي إبان محاكمتهم أمام المحكمة العسكرية العليا المعروفة إعلاميا باسم (محكمة المهداوي)، التي حاكمت توفيق السويدي باعتباره أحد رجال الحكم في العهد الملكي وقد تولى رئاسة الحكومة ثلاث مرات كما تم استيزاره في العديد من وزارات العهد الملكي، وقد مثل السويدي في 29 تشرين الأول/اكتوبر1958 أمام المحكمة في الجلسة رقم (40)، وقرأ المدعي العام اتهامه ضد السويدي، قائلا إنه شكل وزارته الثالثة التي سنت قانون إسقاط الجنسية الذي ساعد اليهود على الخروج من العراق إلى إسرائيل وتهريب أموالهم لدعم الكيان الصهيوني بالمال والنفوس، موضحا أمام المحكمة أن المتهم وأعوانه كانوا يستوفون عشرة دنانير عن كل يهودي، وقد أنكر السويدي ذلك جملة وتفصيلا. ويبدو أن غياب الأدلة التي تدعم هذا الاتهام الخطير جعل رئيس المحكمة العقيد فاضل المهداوي يمتنع عن إثارة الأسئلة حول هذه القضية، مكتفيا بسؤاله عن دوره في ما عرف بالمؤامرة ضد سوريا ومحاولة ضمها لعرش العراق، لكن السويدي أشار في معرض رده أمام المهداوي إنه استطاع بهذا القانون أن يتخلص من مشكلة اليهود في العراق، وإن الدافع وراء إصدار قانون اسقاط الجنسية كان التخلص من اليهود الذين كانوا يسيطرون على اقتصاد العراق وتجارته، وبهذا أغلقت محكمة المهداوي ملف الفساد في هذه القضية.
كاتب عراقي
القدس العربي