كير ستارمر يخضع حزب العمال البريطاني لإرادته بهدوء

يمكن أن يبدو كير ستارمر، زعيم المعارضة البريطانية، كثيراً أقرب إلى محامي حقوق الإنسان التكنوقراطي الذي كان عليه منه إلى السياسي الذي لا يقيده شيء، والذي يعيد حالياً تشكيل حزب العمال بعين تتطلع نحو جعله أكثر جاذبية انتخابياً.
مع ذلك وكما اكتشف حلفاؤه السابقون من تيار اليسار داخل حزبه، يمكن للمظاهر أن تكون خادعة. لقد تسبب ستارمر في حدوث صدع مرير مؤخراً عندما منع جيريمي كوربين، سلفه اليساري من الترشح بصفته مشرّعاً ممثلاً لحزب العمال، مما دفع الزعيم السابق نحو الزعم بتجاوز الإجراءات الديمقراطية، وحذّر قائلاً إن مؤيديه «لن يذهبوا إلى أي مكان».
ولكن أسفل المشاجرة الإعلامية القبيحة، كان التطهير والاستبعاد الفظّ لكوربين نصراً كبيراً لستارمر؛ حيث شدّد قبضته القوية بالفعل على الحزب. بعد ثلاثة أعوام من تولي زمام الأمور في حزب العمال، نجح بهدوء، لكن بفاعلية وكفاءة، في تهميش تيار اليسار داخل الحزب، الذي كان صاعداً يوماً ما، وفرض التزاماً صارماً على فريقه السياسي، وبسط سيطرته على الآلة المحرّكة للحزب، بما في ذلك آلية اختيار الحزب لمرشحيه في البرلمان.
قال جون ماكتيرنان، مخطط استراتيجي سياسي عمل يوماً مساعداً لتوني بلير، رئيس الوزراء الأسبق: «حتى هذه اللحظة العمليات التي نفذها قاسية بدرجة كبيرة، وقد استهان به تيار اليسار وقلل من تقدير قوته». ربما يكون الدرس، الذي تم تلقينه لأعدائه، هو عدم الخلط بين اتجاه ستارمر الدمث والمعتدل، أو عدم وجود جلبة، وبين افتقاره إلى إرادة ممارسة السياسة على أساس نهج تحقيق الأهداف. وأضاف ماكتيرنان قائلاً: «لا يتحدث كير ستارمر عما يفعله، بل يفعله».
يتفق توم بولدوين، مستشار بارز لإد ميليباند، زعيم آخر سابق لحزب العمال، مع هذا الطرح؛ حيث أوضح قائلاً: «إن كير ستارمر، في إطار إصراره المطلق على تذليل جميع العقبات في الطريق نحو النصر، أكثر قسوة وتنافسية من أي زعيم آخر رأيته لحزب العمال». وأضاف قائلاً: «كان لدى توني بلير رؤية واضحة جداً بشأن النقطة التي يود الوصول إليها، لكن هل نبذ أو طرد أياً من أسلافه خارج الحزب؟ لا، لم يفعل».
لم يرد متحدث باسم ستارمر على طلب التعليق.
أثارت حملة حزب العمال خلال الانتخابات العامة عام 2017 تحت قيادة كوربين الاستياء بسبب حرمان تيريزا ماي، رئيسة الوزراء آنذاك، من حزب المحافظين، من أغلبيتها البرلمانية، في إشارة إلى تراجعها سياسياً. كثيراً ما كان يتم تشبيه كوربين في ذروة مسيرته السياسية ببيرني ساندرز، عضو مجلس الشيوخ، حيث كان متنعماً بتملق الداعمين الشباب المتحمسين، حتى إن بعضهم كان يتغنى باسمه في مهرجان «غلاستوبري» لموسيقى الروك.
بعد عامين انفجرت الفقاعة، ومُني حزب العمال بأكبر هزيمة له في الانتخابات العامة منذ عام 1935، في حين تلوثت قيادة كوربين بقضايا تتعلق بمعاداة السامية داخل حزبه. أعقب ذلك تقرير صادر عن لجنة المساواة وحقوق الإنسان يتضمن انتقادات كبيرة بشأن تعامل حزب العمال مع شكاوى تتعلق بمعاداة السامية. عندما زعم كوربين في عام 2020 أنه قد تمت «المبالغة بشكل كبير» في حجم ونطاق المشكلة من جانب المعارضة، منعه ستارمر من الحضور في المجموعة البرلمانية لحزب العمال، مما اضطره إلى المواصلة مستقلاً.
لقد أتمّت اللجنة التنفيذية الوطنية، وهي الهيئة الحاكمة لحزب العمال، عملية التطهير السياسي للزعيم السابق بطلب من ستارمر، وجاء رد فعل صامت على نحو مفاجئ من جانب تيار اليسار داخل الحزب، مما يشير إلى تراجع نفوذه.
صرح جون لانزمان، مؤسس «مومينتام»، وهي مجموعة ضغط يسارية داخل حزب العمال، لمحطة «تايمز راديو» الإذاعية بأن ستارمر «للأسف يتصرف وكأنه بوتين حزب العمال. ليست تلك هي الطريقة التي نمارس بها السياسة». مع ذلك عند سؤاله عما إذا كان سوف يشارك في حملة كوربين في حال ترشح الزعيم السابق للانتخابات، لا بصفته ممثلاً لحزب العمال بل بصفته مرشحاً مستقلاً، أجاب لانزمان قائلاً: «لا، لن أفعل بالتأكيد. أريد أن أرى كير ستارمر منتخباً في منصب رئيس وزراء هذا البلد، ونحن نحتاج إلى حكومة من حزب العمال». يوضح الصمت من جانب منتقدين داخليين التحول السياسي الذي حققه ستارمر بعيداً عن الأنظار.
لم يلتزم ستارمر، الذي تم انتخابه في البرلمان عام 2015، قط بتيار اليسار المتشدد داخل الحزب، لكنه مع ذلك عمل ضمن فريق كوربين، وشارك في حملته الانتخابية بصفته رئيساً للوزراء. عندما استقال كوربين بصفته زعيماً في 2019، تزعم ستارمر بشكل مفاجئ الفصائل الداخلية، وأعاد طمأنة تيار اليسار بقوله إن حزب العمال لن «يتحول بدرجة كبيرة بعيداً» عن توجه وبرنامج سلفه.
يقول داعمو كوربين إن هذا ما فعله ستارمر بالفعل، في حين يرى منتقدون آخرون أنه لم يقدم رؤية تثير حماس الناخبين، ويبدو أنه مكتفٍ باستغلال غياب شعبية حزب المحافظين في الوقت الحالي، ويعوّل على ذلك. مع ذلك يبدو أن الانفصال عن كوربين، بوصفه جزءاً من استراتيجية «تطهير من السموم» أكبر، قد ساعد في تحسين تقديرات استطلاعات الرأي التي تسجل تقدم وتفوق حزب العمال حالياً على المحافظين.
من المقرر أن تتم عملية التصويت في الانتخابات الوطنية بحلول يناير (كانون الثاني) 2025. وفي ظل وجود ستارمر في وضع جيد مسيطر يمكّنه من أن يصبح رئيس الوزراء المقبل بعد هزيمة الحزب لأربع مرات متتالية في الانتخابات العامة، وجد المشرّعون الممثلون لحزب العمال نهجاً جديداً، وهو تعزيز سلطة زعيمهم. هناك بالنسبة إلى ستارمر بعض المخاطر التي تتعلق بالتخلص من سلفه؛ ففي حال ترشح كوربين في الانتخابات بصفته مستقلاً في الدائرة الانتخابية بشمال لندن، التي يمثّلها منذ عام 1983، بما في ذلك مدة تزيد على عقد أثناء قيادة بلير للحزب، ربما يفوز. وحتى إذا خسر، يمكن أن يجذب كوربين الانتباه الإعلامي، ويشتته بعيداً عن حملة حزب العمال الانتخابية الكبرى.
هناك مخاطرة أخرى تتمثل في خسارة الحزب لبعض من شبابه من المؤيدين المتحمسين الذين جذبهم كوربين. لقد وصف جيمس شنايدر، مساعد سابق لكوربين، نهج ستارمر بأنه «هجوم سياسي سافر على الأفكار والقوى الاجتماعية، التي كانت تحتشد لإعادة توزيع الثروة والسلطة في هذا البلد، وكان ذلك في وقت اقترب فيه الحزب كثيراً من السلطة» خلال الانتخابات العامة في 2017.
كذلك أشار شنايدر إلى أن الهجوم على تيار اليسار «بالمعنى العملي فعّال وسريع جداً»، حيث أخذ هذا التيار على حين غرّة، وأضاف قائلاً: «لا أعتقد أن أي شخص قد خطر بباله أنه سيكون على هذا النحو الكبير الشامل».

الشرق الاوسط + نيويورك تايمز