فلسفة البياض / قصة قصيرة

تم نشره الجمعة 16 أيلول / سبتمبر 2011 09:53 مساءً
فلسفة البياض / قصة قصيرة
ناريمان ابو اسماعيل

لم يسبق لي وأنْ تعمقتُ في معاني الألوان وفلسفتها قبل الذي حدث ، فالبرغم من جلوسي مذهولة أمام جثمانه إلا أنني كنت أعاني فلسفة الأسئلة : لماذا الأبيض تحديدًا هو اللون الأساسي الذي يدخل في اشتقاق كل الألوان ؟لماذا يتحوّل قرص قوس قزح إلى الأبيض عند إدارته بسرعة ؟ لماذا يتزامن سقوط الثلج مع شجرة الميلاد في القصص والحكايات وأفلام التلفزيون؟ لماذا اختير الأبيض تحديدًا لونًا للكفن ؟؟؟؟

في حضرة البياض التقينا ، عظيمٌ هذا اللون كبحرٍ موجزٍ كالصمت ، كيف استطاع أن يبتلع ذكريات عمر مضى ، وأحلام عمر يُفترض أن تكون في ساعة من الزمن ؟ كيف طوى كل ألوان حزني .. حسرتي .. دهشتني .. صمتي .. هكذا في حياد ؟

عذرًا أيها البياض ، تخلَ قليلا ً قليلا ً عن مجازك ، ألقِ عنك عباءة الإيجاز ، وتوشح قليلاً قليلاً ببعض ألوان البوح.

أجثو على ركبتي قرب رأسه ، أمرر يدا مرتبكة بين خصلات شعره ، أهمس بصوت قطّعتْ أوتاره الحســــرة : " يا حبيبي يا خوي ، ياحبيبي يا خوي " أفقدُ دموعي ، أفقد صوتي ، أفقدني .أنظر إليه كما لم أفعل من قبل ، أتأمل تفاصيل وجهه ، لا تحمل عناوين سوى النهاية،عيناه مغلقتان ، شفتاه مبتسمتان دون أن تنفرجا ، منخاره محشو بقطعة قطن . هو الرحيل إذن
شادي ..افتح عينيك أرجوك ، حرك شفتيك ، قل لي شيئـًا .
باردٌ كالثلج أنت ، تسربْ إلى خلاياي التي تحترق ، أطفئ نيرانها ، أخمد اشتعالات اشتياقها ، أخرج يدك ، لوِّح لي مُنذرًا برحيلٍ ، أو واعدًا بعودة ، اركلني بقدمك مازحًا وأسقطني أرضًا كما كنتَ تفعل ، احملني ودُر بي ودعني أصرخ خوفـًا كما كنتُ أفعل .
قلعة موصدة بلا نوافذ كان الكفن ، يطبق على جسده بإحكام ، مطلقـًا سراح رأسه ليعتذر عن استحالة اتصال الجسد .
شكرا للبياض ... فالنهاية كل ما منحنى إيّاه. عبر ذلك اللون تتسلل فيروز إلى الذاكرة؛ لتعطي البياض كنايته المُضادة ، مذهلة هي .
كيف استطاعت أن تختزل عمر الإنسان في بياض وأغنية ؟
"زمان وأنا زغيرة كان في صبي يجي من الأحراش ألعب أنا واياه .. كان اسمه شادي .. أنا وشادي غنينا سوى ... العبنا على التلج اركضنا بالهوى " .
شادي بيباض طفولته الأولى ، يركض بمعطفه الأسود ، وخصلات شعره الذهبية على الثلج ، يلاحقني ، يضربني بكرات ثلجية بحجم قبضة يده ، تؤلم وجهي ، تؤلم عيني ، فأسقط على الثلج ، يمسكني من يدي ، يرفعني يدللني ، ثم يغافلني بكرة أخرى خبأها في يده الصغيرة ، أمتلئ غيظا ، أضربه بكرات متتالية على ظهره ، وهكذا حتى نتحلق حول المدفأة مساء بعدما يكون الثلج قد أحبلنا بأحلام أعوام قادمة ، كما أحبل الارض بالربيع .
" يالله ناريمان ودعيه " يعيدني صوت فارس من شرودي . هو وقت البياض الأخير، وقت الإيجاز حتى في الذكريات .
سريعًا يمر لقاء الأحبة ، موجع لقاؤهم في كفن .
أقترب منه أكثر ، أتأمل ملامحه ، أتزود منها لليالي الجوع القادمة ، أتنفس عطره وقودا لصقيع الثلجات الآتية .
أطبع قبلة على جبهته ، يربط فارس الكفن وكأنه يربط على أحلامي برؤيته إلى الأبد .
تعود فيروز "خفت و صرت إندهلو وينك رايح ياشادي إندهلو وما يسمعني " . نعم ما كان ليسمعني ، وما كان ليجيب ؛ فللأموات في بياضتهم جلالة تمنعهم من الثرثرة .
أتأمل الكفن وقد لف كامل جسده ، لماذا الأبيض تحديدًا هو اللون الأساسي الذي يدخل في اشتقاق كل الألوان ؟ لماذا يتحول قرص قوس قزح إلى الأبيض عند إدارته بسرعة ؟ لماذا يتزامن سقوط الثلج مع شجرة الميلاد في القصص والحكايات وأفلام التلفزيون ؟ لماذا اختير الأبيض تحديدا لونا للكفن ؟
في هذه اللحظة المتقدمة من الألم وصوت فيروز تأتي الإجابه ، الأبيض أبو البدايات و أبو النهايات ،الأبيض عنوان الميلاد في الثلج ، وعنوان الموت في كفن ، الأبيض طاوٍ أيامنا بكل ألوان حزنها فرحها ألمها شقائها في لحظة ، تماما كما يلف كل ألوان قرص قوس قزح عند إدارته بسرعة .
أقف ، يحملوه على أكتافهم ، يديرون ظهورهم ، تصرخ فيروز " ضاع شادي " .
نعم ، راح شادي غادر حياته في نيسانها ، ومنحني ما تبقى من سنينها رصيد حزن إضافي ، هو الذي لم يحمل يومًا حقيبة سفر ، ها هو البياض يلفّه حقيبة سفر أخيرة في كفن .
ضاع شادي ، راح شادي ، تجمد في صقيع الكفن .
تسير السيارات بموكبٍ جنائزي لا يليق إلا به . فريدًا كان في مولده، فريدًا حتى في فجيعته .


وتستمر فلسفة البياض ... " راح وإجى التلج ، عشرين مرة راح وإجى التلج ، وأنا صرت أكبر، وشادي بعدو زغيّر عم يلعب عالتلج " . تستمر فلسفته كمخرز وجع في كف عمري القادم، وغصة متكررة على عزف منفرد ،كلما سقط الثلج ،وتزامن مع شجرة الميلاد ، وأحبل الأرض بالربيع ، وكلما دار قوس قزح ، ستستمر فلسفته إلى أن يطويني البياض الأخير في كفن



مواضيع ساخنة اخرى
الإفتاء: حكم شراء الأضحية عن طريق البطاقات الائتمانية الإفتاء: حكم شراء الأضحية عن طريق البطاقات الائتمانية
" الصحة " :  97 حالة “حصبة” سجلت منذ أيار لدى أشخاص لم يتلقوا المطعوم " الصحة " : 97 حالة “حصبة” سجلت منذ أيار لدى أشخاص لم يتلقوا المطعوم
الملكة في يوم اللاجىء العالمي : دعونا نتأمل في معاناة الأمهات والرضع الملكة في يوم اللاجىء العالمي : دعونا نتأمل في معاناة الأمهات والرضع
3341طن خضار وفواكه ترد للسوق المركزي الثلاثاء - اسعار 3341طن خضار وفواكه ترد للسوق المركزي الثلاثاء - اسعار
الدهامشة : الداخلية وفرت كل التسهيلات لقدوم العراقيين للأردن الدهامشة : الداخلية وفرت كل التسهيلات لقدوم العراقيين للأردن
العلاوين: التوسعة الرابعة ستمكن المصفاة من تكرير 120 ألف برميل نفط يوميا العلاوين: التوسعة الرابعة ستمكن المصفاة من تكرير 120 ألف برميل نفط يوميا
" الائتمان العسكري " : تمويل طلبات بقيمة 13 مليون دينار " الائتمان العسكري " : تمويل طلبات بقيمة 13 مليون دينار
العيسوي يفتتح وحدة غسيل كلى بالمركز الطبي العسكري بمأدبا العيسوي يفتتح وحدة غسيل كلى بالمركز الطبي العسكري بمأدبا
الصحة: مخزون استراتيجي للأمصال المضادة للدغات الأفاعي الصحة: مخزون استراتيجي للأمصال المضادة للدغات الأفاعي
بالاسماء : تنقلات واسعة في امانة عمان بالاسماء : تنقلات واسعة في امانة عمان
عضو في لجنة الاقتصاد النيابية: بطء شديد في تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي عضو في لجنة الاقتصاد النيابية: بطء شديد في تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي
إخلاء طفل من غزة لاستكمال علاجه بالأردن إخلاء طفل من غزة لاستكمال علاجه بالأردن
تسجيل 14 إصابة بالملاريا جميعها إصابات وافدة منذ بداية العام تسجيل 14 إصابة بالملاريا جميعها إصابات وافدة منذ بداية العام
ملك إسبانيا : الأردن هو حجر الرحى في الاستقرار الإقليمي ملك إسبانيا : الأردن هو حجر الرحى في الاستقرار الإقليمي
الملك : حل الدولتين أساسي لتحقيق السلام والازدهار في المنطقة الملك : حل الدولتين أساسي لتحقيق السلام والازدهار في المنطقة
الهواري يؤكد أهمية ضبط العدوى لتقليل مدة إقامة المرضى في المستشفيات الهواري يؤكد أهمية ضبط العدوى لتقليل مدة إقامة المرضى في المستشفيات