فلسفة البياض / قصة قصيرة
لم يسبق لي وأنْ تعمقتُ في معاني الألوان وفلسفتها قبل الذي حدث ، فالبرغم من جلوسي مذهولة أمام جثمانه إلا أنني كنت أعاني فلسفة الأسئلة : لماذا الأبيض تحديدًا هو اللون الأساسي الذي يدخل في اشتقاق كل الألوان ؟لماذا يتحوّل قرص قوس قزح إلى الأبيض عند إدارته بسرعة ؟ لماذا يتزامن سقوط الثلج مع شجرة الميلاد في القصص والحكايات وأفلام التلفزيون؟ لماذا اختير الأبيض تحديدًا لونًا للكفن ؟؟؟؟
في حضرة البياض التقينا ، عظيمٌ هذا اللون كبحرٍ موجزٍ كالصمت ، كيف استطاع أن يبتلع ذكريات عمر مضى ، وأحلام عمر يُفترض أن تكون في ساعة من الزمن ؟ كيف طوى كل ألوان حزني .. حسرتي .. دهشتني .. صمتي .. هكذا في حياد ؟
عذرًا أيها البياض ، تخلَ قليلا ً قليلا ً عن مجازك ، ألقِ عنك عباءة الإيجاز ، وتوشح قليلاً قليلاً ببعض ألوان البوح.
أجثو على ركبتي قرب رأسه ، أمرر يدا مرتبكة بين خصلات شعره ، أهمس بصوت قطّعتْ أوتاره الحســــرة : " يا حبيبي يا خوي ، ياحبيبي يا خوي " أفقدُ دموعي ، أفقد صوتي ، أفقدني .أنظر إليه كما لم أفعل من قبل ، أتأمل تفاصيل وجهه ، لا تحمل عناوين سوى النهاية،عيناه مغلقتان ، شفتاه مبتسمتان دون أن تنفرجا ، منخاره محشو بقطعة قطن . هو الرحيل إذن
شادي ..افتح عينيك أرجوك ، حرك شفتيك ، قل لي شيئـًا .
باردٌ كالثلج أنت ، تسربْ إلى خلاياي التي تحترق ، أطفئ نيرانها ، أخمد اشتعالات اشتياقها ، أخرج يدك ، لوِّح لي مُنذرًا برحيلٍ ، أو واعدًا بعودة ، اركلني بقدمك مازحًا وأسقطني أرضًا كما كنتَ تفعل ، احملني ودُر بي ودعني أصرخ خوفـًا كما كنتُ أفعل .
قلعة موصدة بلا نوافذ كان الكفن ، يطبق على جسده بإحكام ، مطلقـًا سراح رأسه ليعتذر عن استحالة اتصال الجسد .
شكرا للبياض ... فالنهاية كل ما منحنى إيّاه. عبر ذلك اللون تتسلل فيروز إلى الذاكرة؛ لتعطي البياض كنايته المُضادة ، مذهلة هي .
كيف استطاعت أن تختزل عمر الإنسان في بياض وأغنية ؟
"زمان وأنا زغيرة كان في صبي يجي من الأحراش ألعب أنا واياه .. كان اسمه شادي .. أنا وشادي غنينا سوى ... العبنا على التلج اركضنا بالهوى " .
شادي بيباض طفولته الأولى ، يركض بمعطفه الأسود ، وخصلات شعره الذهبية على الثلج ، يلاحقني ، يضربني بكرات ثلجية بحجم قبضة يده ، تؤلم وجهي ، تؤلم عيني ، فأسقط على الثلج ، يمسكني من يدي ، يرفعني يدللني ، ثم يغافلني بكرة أخرى خبأها في يده الصغيرة ، أمتلئ غيظا ، أضربه بكرات متتالية على ظهره ، وهكذا حتى نتحلق حول المدفأة مساء بعدما يكون الثلج قد أحبلنا بأحلام أعوام قادمة ، كما أحبل الارض بالربيع .
" يالله ناريمان ودعيه " يعيدني صوت فارس من شرودي . هو وقت البياض الأخير، وقت الإيجاز حتى في الذكريات .
سريعًا يمر لقاء الأحبة ، موجع لقاؤهم في كفن .
أقترب منه أكثر ، أتأمل ملامحه ، أتزود منها لليالي الجوع القادمة ، أتنفس عطره وقودا لصقيع الثلجات الآتية .
أطبع قبلة على جبهته ، يربط فارس الكفن وكأنه يربط على أحلامي برؤيته إلى الأبد .
تعود فيروز "خفت و صرت إندهلو وينك رايح ياشادي إندهلو وما يسمعني " . نعم ما كان ليسمعني ، وما كان ليجيب ؛ فللأموات في بياضتهم جلالة تمنعهم من الثرثرة .
أتأمل الكفن وقد لف كامل جسده ، لماذا الأبيض تحديدًا هو اللون الأساسي الذي يدخل في اشتقاق كل الألوان ؟ لماذا يتحول قرص قوس قزح إلى الأبيض عند إدارته بسرعة ؟ لماذا يتزامن سقوط الثلج مع شجرة الميلاد في القصص والحكايات وأفلام التلفزيون ؟ لماذا اختير الأبيض تحديدا لونا للكفن ؟
في هذه اللحظة المتقدمة من الألم وصوت فيروز تأتي الإجابه ، الأبيض أبو البدايات و أبو النهايات ،الأبيض عنوان الميلاد في الثلج ، وعنوان الموت في كفن ، الأبيض طاوٍ أيامنا بكل ألوان حزنها فرحها ألمها شقائها في لحظة ، تماما كما يلف كل ألوان قرص قوس قزح عند إدارته بسرعة .
أقف ، يحملوه على أكتافهم ، يديرون ظهورهم ، تصرخ فيروز " ضاع شادي " .
نعم ، راح شادي غادر حياته في نيسانها ، ومنحني ما تبقى من سنينها رصيد حزن إضافي ، هو الذي لم يحمل يومًا حقيبة سفر ، ها هو البياض يلفّه حقيبة سفر أخيرة في كفن .
ضاع شادي ، راح شادي ، تجمد في صقيع الكفن .
تسير السيارات بموكبٍ جنائزي لا يليق إلا به . فريدًا كان في مولده، فريدًا حتى في فجيعته .
وتستمر فلسفة البياض ... " راح وإجى التلج ، عشرين مرة راح وإجى التلج ، وأنا صرت أكبر، وشادي بعدو زغيّر عم يلعب عالتلج " . تستمر فلسفته كمخرز وجع في كف عمري القادم، وغصة متكررة على عزف منفرد ،كلما سقط الثلج ،وتزامن مع شجرة الميلاد ، وأحبل الأرض بالربيع ، وكلما دار قوس قزح ، ستستمر فلسفته إلى أن يطويني البياض الأخير في كفن