الجماعات اليهودية الأمريكية ضد نتنياهو
في خطوة غير مسبوقة، ألغى بنيامين نتنياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي، مطلع الأسبوع الحالي، مشاركته في المؤتمر السنوي لمنظمة «الاتحادات اليهودية في أمريكا الشمالية»، الذي يعقد في تل أبيب بمناسبة مرور 75 عاما على تأسيس الدولة الصهيونية. جاء امتناع نتنياهو عن حضور المؤتمر وإلقاء كلمة فيه، بعد أن وصلته معلومات مؤكّدة أن المحتجين على «الانقلاب القضائي»، لن يكتفوا بالتظاهر خارج القاعة، بل يخططون لمقاطعته ومنعه من الكلام. سبق ذلك قيام المئات من المتظاهرين بحصار اجتماع سيمحا روتمان رئيس لجنة الدستور والقانون والقضاء التابعة للكنيست، الذي يدير تمرير قوانين الانقلاب القضائي، بأعضاء كتل اليمين في المؤتمر الصهيوني العالمي، ما اضطر الشرطة إلى إخلائه من باب خلفي تحت حراسة مشدّدة. وقبلها، رفضت القيادات اليهودية الأمريكية، الاجتماع بوزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش، عند زيارته لواشنطن، بسبب مواقفه الفاشية المتطرّفة، وبعد دعوته لمحو بلدة حوّارة الفلسطينية.
كانت تلك مؤشّرات لأزمة، وهناك من يقول كسرا، في العلاقة بين الجماعات اليهودية في الولايات المتحدة والحكومة الإسرائيلية اليمينية الحالية، التي تثير غضبا ونفورا ونقدا شديدا في أوساط هذه الجماعات، بسبب مشروع «الانقلاب القضائي»، الذي يقوّض قدرة يهود أمريكا على الاستمرار في تسويق إسرائيل كدولة ديمقراطية. وتلتقي هذه التطوّرات بتزايد في التساؤلات في الجماعة اليهودية الأمريكية، حول جدوى العلاقة بإسرائيل والحاجة إليها، وبتراخي الارتباط بها وبالانصراف المتزايد إلى تفضيل الاهتمام بشؤون الجماعات اليهودية الأمريكية الداخلية.
جالية أم جماعة
امتنع المرحوم الدكتور عبدالوهاب المسيري، صاحب موسوعة «اليهود واليهودية والصهيونية»، عن استعمال كلمة «جالية» للإشارة إلى تجمّع يهودي، بسبب شحنتها الصهيونية (جماعة من الناس تعيش في وطن غير وطنها الأصلي)، واستعمل عوضا عنها كلمة «جماعة» المحايدة. كما رفض المسيري للسبب نفسه، تعبيري الشتات والمنفى، وأورد بدلا عنهما مصطلح «الانتشار اليهودي في أنحاء العالم». من الناحية المبدئية يمكن استعمال التعابير المشوَّهة والمشوِّهة، شرط الإشارة إلى طبيعتها وإلى القائلين بها. فما تسمّيه الصهيونية «شتاتا»، هو مصطلح مؤدلج يحمل في طيّاته الدعوة إلى «جمع الشتات» في فلسطين. والقاموس الصهيوني عموما مليء بالمصطلحات والتعابير المشحونة عقائديا وعاطفيا، لاستدراج التعاطف والدعم ومنح الشرعية للمشروع الاستيطاني. لقد كان النقاش حول قضية الوطن والمنفى محرّكا أولى الأزمات بين الجماعات اليهودية في الولايات المتحدة والحكومة الإسرائيلية الأولى، حيث رفضت قيادة هذه الجماعات اعتبارها جاليات تعيش في المنفى، مؤكّدة أنها تعيش في وطنها الأمريكي، وأنها تشكّل مركزا يهوديا لا يقل أهمية عن ذلك الذي نشأ في إسرائيل، وأن لليهود مركزين رئيسيين متساويين على نسق «بابل وأورشليم». وشكا المتحدثون باسم الجماعة اليهودية في الولايات المتحدة من تهميشها ومن تقزيم دورها من قبل القيادة الإسرائيلية. وفي عام 1950، توصّل دافيد بن غوريون رئيس الوزراء الإسرائيلي حينها، إلى اتفاق تفاهمات مع رئيس «اللجنة اليهودية الأمريكية» يعقوب بلاوشتاين، في محاولة لتهدئة خواطر الجماعة اليهودية في الولايات المتحدة بشأن دورها ومكانتها الخاصة.
غضب على نتنياهو
أثار امتناع نتنياهو عن المشاركة في أهم اجتماع لأهم منظمة يهودية أمريكية، ردود فعل غاضبة، خاصة أنّه حرص سنويا على إلقاء كلمة من على هذه المنصّة. وأنشأت صحيفة «هآرتس» افتتاحية جاء فيها: «نتنياهو لا يكتفي بوظيفته رئيسا لحكومة إسرائيل، ويعتبر نفسه قائدا للشعب اليهودي بأسره. ولكن في اللحظة التي أدرك فيها أنه حين سيلقي خطابا أمام 3000 يهودي أمريكي، ستكون هناك مظاهرات ضد الانقلاب على الحكم، وأنّه تحوّل عمليا إلى شخصية غير مرغوب فيها (برسونا نان غراتا) عند جمهور كان هو بالنسبة له «الملك بيبي»، قرر الانسحاب والتهرّب… (وهذا دليل آخر) على نظرة نتنياهو المستهترة وحتى العدائية تجاه الأغلبية الليبرالية في صفوف يهود الولايات المتحدة». ونشرت صحيفة «جيروزاليم بوست» مقالا جاء فيه: «التوتر بين نتنياهو ويهود الولايات المتحدة ليس جديدا، ويعود الى أيام أوباما، ويتزايد التساؤل عندهم حول الحاجة للعلاقة بإسرائيل. الإصلاحات القضائية زادت من التوتّر ومن تردد السؤال لماذا إسرائيل مهمة، ونتنياهو يوجه لهم رسالة بأنه لا يأبه بذلك، ويسدد في وجههم صفعة قويّة.. وفي الوقت التي يحتاج فيه رئيس الوزراء الإسرائيلي إلى العلاقة مع يهود الولايات المتحدة، قرر تجاهل المؤتمر السنوي، وإذ هو يقدّر الولايات المتحدة، فإنّه في ما يتعلّق بيهودها، يفضّل الطلاق». وهكذا، وفضلا عن الخلاف الحاد حول الانقلاب القضائي ومسائل أخرى، تستعيد الجماعة اليهودية في الولايات المتحدة إحساسها، كما في خمسينيات القرن الماضي، بأن الحكومة الإسرائيلية تستهتر بها، ما قد يؤدّي إلى المزيد من الابتعاد عن إسرائيل، خاصة أن نتنياهو هو حليف الجمهوريين، ويأبه بمواقف الإنجيليين المسيحيين أكثر من اهتمامه بتوجّهات اليهود الليبراليين في الولايات المتحدة.
اليهود الأمريكيون الليبراليون يشعرون بنفور شديد من نتنياهو وحكومته ومشروع الانقلاب القضائي، ويتردد في أوساطهم القول: «نحن لن نستطيع بعد هذا أن ندافع عن إسرائيل»
اهتزاز الخطاب
على مدى عقود طويلة، استند الخطاب اليهودي الأمريكي الداعم لإسرائيل إلى ثلاثة أرجل: الأولى، عقدة الذنب بسبب الهولوكوست، والثانية، وقوف إسرائيل ضد أعداء أمريكا، والثالثة الهوية الثقافية وما يسمّى بالقيم الديمقراطية المشتركة. وفي ظل إمكانية أن تتغيّر صورة إسرائيل كدولة ديمقراطية (في الحقيقة هي ليست كذلك) وتنكسر الرجل الثالثة، فإن الخطاب مهدد بفقدان التوازن والتأرجح على رجلين. وعليه فإن اليهود الأمريكيين الليبراليين يشعرون بمعظمهم بنفور شديد من نتنياهو وحكومته ومشروع الانقلاب القضائي، ويتردد في أوساطهم القول: «نحن لن نستطيع بعد هذا أن ندافع عن إسرائيل». وكما أن الانقسام في إسرائيل حقيقي وعميق، فإن الأزمة مع الجماعات اليهودية حقيقية وعميقة أيضا. وفي تقرير لصحيفة «نيويورك تايمز»، هذا الأسبوع، قال عضو الكونغرس اليهودي عن الحزب الديمقراطي، جاك أوكينكلوس: «أنا أمثل جماعة يهودية متعددة المشارب والتوجّهات، لكن هناك قضية عليها إجماع وهي القلق من أن إسرائيل تتجه نحو ديمقراطية غير ليبرالية». وارتفعت أصوات المعارضة للانقلاب القضائي في إسرائيل، والداعمة لمظاهرات الاحتجاج، من أوساط الجماعات اليهودية كافة، حيث توقّف حاخامات عن الدعاء لدولة إسرائيل، وحذّر آخرون من تداعيات دخول أمثال سموتريتش، الذي دعا الى فصل النساء العربيات عن اليهوديات في غرف الولادة، وبن غفير، الذي علّق صورة مرتكب مجزرة الحرم الإبراهيمي في غرفته. كما طرحت قيادات يهودية أمريكية نافذة خشيتها من أن تصبح إسرائيل دولة يهودية وغير ديمقراطية (كما هي فعلا، لكن الصورة تطغى على الأصل)، معتبرة ذلك التهديد الأكبر حيث بنظرها «لا خوف على وجود إسرائيل».
اتجاه الريح
بلا علاقة بالموقف من الانقلاب القضائي في إسرائيل، تشهد الجماعة اليهودية في الولايات المتحدة تحوّلات كبرى، تتمثل في ابتعاد الشباب عن الصهيونية وإسرائيل، وفي ارتفاع حاد في الزواج المختلط، الذي وصل إلى 60%، وفي المزيد من الاندماج في المجتمع الأمريكي وفي أنماط تصويت تعتمد على القضايا الأمريكية الداخلية (فقط 4% يحسمون تصويتهم بموجب موقف المرشح من إسرائيل). وتبلغ نسبة تصويت اليهود للحزب الديمقراطي 75-80%، الذي يشهد هذا الحزب تغييرا واضحا باتجاه دعم القضية الفلسطينية وانتقاد إسرائيل. وينجرف أغلب يهود الولايات المتحدة مع التيار التقدمي الصاعد في الحزب الديمقراطي، الذي يجتذب الشباب الأمريكي بمن فيهم الشباب اليهودي. وإذا كانت هناك علامات استفهام حول مدى تأثير الجماعة اليهودية على القرار السياسي في إسرائيل، فلا شك أن لها وزنا مهما في السياسة الأمريكية، بسبب قوّتها الاقتصادية ونفوذها الإعلامي وثقلها في النخب الأمريكية كافة، سوى النخبة الأمنية. حتى اليوم، ما زالت الجماعة اليهودية في الولايات المتحدة هي الأكبر ويصل عددها إلى 8 ملايين، مقابل ما يقارب 7 ملايين يهودي في إسرائيل. ومهما يكن من أمر فإن التأثير المتبادل بين الجماعتين كبير جدّا على جميع المستويات، ولكنّ الجماعة اليهودية الأمريكية بذاتها وبكيانها وبغضّ النظر عن مواقفها، هي دليل على أن هناك بديلا اندماجيا للمشروع الصهيوني، الرامي إلى عزل اليهود وإبعادهم عن أوطانهم. يبقى السؤال هل يتواصل ابتعادها عن إسرائيل إلى مرحلة العودة إلى هوية يهودية غير صهيونية كهوية جماعية للجماعة؟ إذا واصلت حكومة نتنياهو تنفيذ مشروع الانقلاب القضائي، فهناك إمكانية بأن تتحوّل الأزمة مع الجماعة اليهودية الأمريكية إلى كسر، وربما تتحوّل هذه الجماعة الى حاضنة للمهاجرين اليهود من إسرائيل. لكن ربّما تثمر جهودها وجهود غيرها في ثني نتنياهو عن تنفيذ مشروع حكومته.
كاتب وباحث فلسطيني
القدس العربي