«أبله عفّت» في برلمان المشاغبين
تأتي في أعلى قائمة النساء اللائي أثرن إعجابي في الحياة العامة البريطانية خمس شخصيات: مارغريت تاتشر، والممثلة فانيسا ردغريف، والمذيعة التي نسيها الجميع شينا ماكدونالد، والبرلمانيتان الراحلتان شيرلي ويليامز وبتّي بوثرويد. شيرلي وليامز، «أفضل رئيسة وزراء لم تحظ بها بريطانيا» هي تلك السياسية المحبوبة التي سبق أن كتبت عنها هنا قبل عامين. أما بتّي بوثرويد، التي شيعت كل الطبقة السياسية جنازتها أواخر الشهر الماضي، فقد كانت معروفة عالميا بفضل البث التلفزيوني لجلسات مجلس العموم الذي رأسته في التسعينيات. وقد كان بين شيرلي ويليامز وبتّي بوثرويد تفاهم وانسجام. إذ رغم أن حزب العمال الذي كانتا تنتميان إليه ناهض انضمام بريطانيا إلى السوق الأوروبية المشتركة أثناء حملة الاستفتاء على العضوية عام 1975، فإنهما وقفتا بشجاعة ضد أعيان الحزب (توني بنّ، ومايكل فوت، وباربرا كاسل) وأيدتا روي جنكنز في القول بأن العضوية ستمحو عداوات الماضي الأوروبي وستنحو ببريطانيا منحى الديمقراطية الاجتماعية والتقدم الاقتصادي. والصفة الجامعة بين تاتشر وبوثرويد ووليامز (رغم اختلاف الانتماء الحزبي) هو أن ثلاثتهن كنّ يرين أن على القلة من النساء اللائي يردن دخول المعترك السياسي أن يقبلن البرلمان كما هو: بفظاظة أساليبه وألاعيبه وحتى بذاءة لغة أعضائه، أي أن يكنّ ثابتات الشخصية فينجحن بمحض جهدهن ومضاء عزيمتهن. وهذا ما يميزهن، مثلما تبين صوفي ريدج في كتابها «النساء اللائي شكّلن السياسة وغيّرنها» عن أجيال النساء اللائي دخلن البرلمان بأعداد متكاثرة منذ عام 1997 (مع توني بلير) فهؤلاء يشكين من المساوئ الذكورية السائدة في البرلمان وينادين بوجوب أن يصير أكثر تهذّبا وتمدّنا.
معروف أن منصب رئيس مجلس العموم في بريطانيا أثقل عبئا وأصعب أداء من مثيله في معظم برلمانات الديمقراطيات الليبرالية الأخرى. ويكمن السبب في الشدة والحدة اللتين تسمان المداولات بين البرلمانيين
لم تكن بتّي بوثرويد تعير أي اهتمام لكونها أول امرأة ترأس مجلس العموم، من 1992 إلى 2000. بل كان كل همها أن تضطلع بدورها وكفى. وبما أنها تألقت في الدور وأينعت، فقد أحبها الجمهور حتى صار يرى أنها لم تخلق إلا لتكون رئيسة البرلمان. كانت سيدة ذات شخصية أخاذة حقا. ينطبق عليها الوصف الذي يطلقه الفرنسيون على المرأة الضئيلة القامة (جسميا) الرفيعة القيمة (إنسانيا): إنها «ذؤابة امرأة» ولكن يا لإشعاع الروح ويا لجاذبية الحضور!
ومعروف أن منصب رئيس مجلس العموم في بريطانيا أثقل عبئا وأصعب أداء من مثيله في معظم برلمانات الديمقراطيات الليبرالية الأخرى. ويكمن السبب في الشدة والحدة اللتين تسمان المداولات بين البرلمانيين. أما مدار الدراما في المجلس فهو على مناظرة أسبوعية لا رحمة فيها بين رئيس الوزراء وزعيم المعارضة. ولما قرأت طرفا من مذكرات جورج توماس، الذي رأس مجلس العموم من 1976 إلى 1983، لفتني تأكيده على صعوبة الدور وحساسيته.
والسبب مزدوج: وجوب التزام الحياد بين الأحزاب في مواجهة ضغوط الحزب الذي كان ينتمي إليه الرئيس؛ وميل نواب كل حزب إلى التشويش والتهكم على المتحدثين من نواب الحزب الآخر. إلا أن بتي بوثرويد تميزت بالعزم والحزم، حيث كانت تبدو كأنها «أبله عفّت» في مدرسة المشاغبين: مديرة صارمة تعاقب جمعا من التلاميذ الصاخبين. كانت كثيرا ما تنهر البرلمانيين الذين لا يلتزمون الهدوء، صارخة: «النظام، النظام، النظام!». بل إنه حدث أن قاطعت أحد الوزراء آمرة: «عد واجلس في مقعدك!».
نشأت بوثرويد في عائلة عمالية في بلدة ديوزبري بمقاطعة يوركشير، وكان والداها مناضلين نقابيين. ورغم قلة ذات اليد، كانت العائلة ترى أنها محظوظة، بدليل أنها كانت تجد النقود لشراء الجريدة المحلية كل أسبوع (!)… قبل أن تتبرع بها ليقرأها معظم الجيران. أحرزت بوثرويد دبلوما في السكرتارية، ولم تدرس في أي جامعة، ولكنها حصّلت تكوينا سياسيا متينا بفضل ذكائها وطموحها. ومن أدلة مثابرتها أنها انهزمت ما لا يقل عن أربع مرات، على مدى 18 سنة، قبل أن تفوز بمقعد في البرلمان. وقد سافرت إلى أمريكا عام 1960 ورافقت حملة جون كندي الرئاسية في طول البلاد وعرضها للاطلاع على أساليب الحملات الانتخابية العصرية.
كانت امرأة تفيض حيوية وطرافة. من ذلك أنها لما كانت رئيسة للبرلمان خرجت لبعض شأنها ذات يوم من أيام يونيو 1997، فإذا بإشارات المرور الضوئية في حي وستمنستر عاطلة مظلمة، ولكن الشرطي بقي غافلا كأن شيئا لم يكن. فما كان من بوثرويد إلا أن اتجهت رأسا إلى المفترق وباشرت بنفسها تنظيم حركة السير!
كاتب تونسي
القدس العربي