مبدأ أوباما وأضعف الايمان
أضعف الايمان يقتضي أن يدعو الرئيس محمود عباس شعبه وأمته الى مليونيات غاضبة ضد السياسة الخارجية الأميركية تدعو الى عدم استقبال هيل وروس وبلير وأمثالهم من القادمين للضغط عليه وعلى نظرائه العرب.
مرت يوم الثلاثاء الماضي الذكرى السنوية الثامنة عشرة لتوقيع "اعلان المبادئ " (اتفاق أوسلو) بين منظمة التحرير الفلسطينية وبين دولة الاحتلال الاسرائيلي في البيت الأبيض الأميركي دون اي احتفال، لكن كذلك دون اعلان اي شهادة وفاة لخطأ استراتيجي فلسطيني يكاد اليوم يقتل القضية الفلسطينية التي تخلى العرب والمسلمون منذ توقيع ذلك الاتفاق المشؤوم عن اعتبارها "القضية المركزية " لهم ولأمنهم وللسلام والاستقرار الاقليمي، وسط مسعى لدى الأمم المتحدة وصفه القيادي في حركة حماس صلاح البردويل ب "قفزة في الهواء غير مضمونة العواقب " يقوم به الرئيس محمود عباس الذي وقع ذلك الاتفاق من أجل انقاذ استمرار العمل به عبر تحسين الموقف التفاوضي للمنظمة في اطاره بتغيير مسماها الى دولة عضو او غير عضو في الأمم المتحدة، ووسط حملة شرسة من الولايات المتحدة راعية الاتفاق لا تتردد في استخدام كل الوسائل لاعادة عباس الى حظيرة الالتزام الدقيق باملاءات التفسير الأميركي – الاسرائيلي لاتفاق لم يعد بين أطرافه من يلتزم به سوى منظمة التحرير من جانب واحد، دون السماح حتى بحد أدنى من التفسير الفلسطيني المستقل له.
قال عباس في القاهرة في الرابع عشر من هذا الشهر إن دولة الاحتلال "بدأت في تدريب الكلاب والمستوطنين على الهجوم على كل ما هو فلسطيني، وأنا لا اعلم مصيري فيمكن ان يقتلوني او يبعدوني او يعتقلوني وقد اكون هدفا لهم في المرحلة المقبلة "، ومع ذلك فإنه يعلن في المناسبة ذاتها: "نحن لا نريد مواجهة مع الأميركيين "، بالرغم من علمه اليقين بأن الاستعدادات العسكرية الأخيرة لقوات الاحتلال من أجل "الحفاظ على النظام " في الضفة الغربية، بقيادة البريغادير جنرال مايكل ايدلشتاين، التي شملت "تدريب الكلاب والمستوطنين "، وتصعيد اعتداءات المستوطنين على المواطنين الفلسطينيين، ومضاعفة عديد شرطة الاحتلال وحرس حدوده، وتحريك دبابات الاحتلال الى مشارف المدن الفلسطينية في الضفة الغربية، وادخال كتيبة احتياط من جيش الاحتلال الى الضفة (يديعوت أحرونوت يوم الأربعاء الماضي)، ناهيك عن تسريع وتيرة الاستعمار الاستيطاني في القدس المحتلة وغيرها، الخ.، ما كانت لتتم دون موافقة إدارة باراك أوباما في واشنطن، التي ابتدعت مبدأ لها وصفه رايان ليزا في "ذى نيويوركر " في الثاني من أيار / مايو الماضي بمبدأ "القيادة من الخلف "، وهو المبدأ الذي جعل واشنطن تتراجع الى "الخلف " وتضع حلف الناتو في واجهة الحملة الغربية على ليبيا على سبيل المثال، تماما كما تضع اليوم دولة الاحتلال الاسرائيلي في واجهة عدوان عسكري تجري الاستعدادات له على الشعب الفلسطيني وتقوده واشنطن من "الخلف " كرأس حربة عسكرية لحملتها الدبلوماسية والسياسية والمالية لاعادة قيادة منظمة التحرير الى حظيرة أوسلو.
ويتضح من استعدادات دولة الاحتلال العسكرية الجارية على قدم وساق تحت المظلة الأميركية أن الولايات المتحدة توفر حاليا البيئة الموضوعية المثلى كي تنفذ دولة الاحتلال ما كتبه وزير خارجيتها الحالي، أفيغدور ليبرمان، خريج نوادي عصابات المافيا، في كتابه باللغة العبرية "حقيقتي " من ان "الفلسطينيين بحاجة أولا الى أن يتم سحقهم تماما "من أجل فرض حل عليهم.
والشعب الفلسطيني لا تنقصه الأدلة على كون الولايات المتحدة "شريكا " لدولة الاحتلال في حصاره، وفي اطالة أمد الاحتلال وتسليحه وتمويله وحمايته ليتحول الى الاحتلال الأجنبي الوحيد المتبقي والأطول والأقدم في العالم، وفي حرمانه من ممارسة نتائج انتخاباته الديموقراطية، وفي رعاية انقسامه الوطني وتغذيته والحرص على استمراره، وفي منع تطبيق قرارات الشرعية الدولية والقانون الدولي الصادرة لصالحه، وفي ابقاء دولة الاحتلال دولة فوق أي قانون، وفي حماية قادتها من أي ملاحقة قانونية وقضائية ضد جرائم الحرب والجرائم ضد الانسانية التي ارتكبوها بحق الشعب الفلسطيني التي ترقى في حصيلتها النهائية الى جريمة إبادة تكاد تجتث هذا الشعب من أرضه وتاريخه وثقافته.
وإذا كان الانحياز الأميركي السافر لدولة الاحتلال قد حول هذه "الشراكة " الى سمة ثابتة للسياسة الخارجية لكل الادارات الأميركية المتعاقبة منذ حرصت الولايات المتحدة على أن تكون الدولة الأولى في العالم التي "تعترف " بدولة المشروع الصهيوني في فلسطين وهي "بلا حدود "، فإن حملة الادارة الحالية لمنع اعتراف الأمم المتحدة بدولة فلسطينية يحدد التوسع الاقليمي العدواني "الاسرائيلي " حدودها إنما يتوج ذروة في "شراكة " إدارة باراك أوباما والرئيس أوباما نفسه مع دولة الاحتلال. فهذا الرئيس حتى قبل أن يجلس في البيت الأبيض شارك في رعاية مشروع قرار في مجلس الشيوخ بالكونغرس يحظر اي اجراء أميركي أو دولي، مثل وقف لاطلاق النار، يعرقل الغزو الاسرائيلي للبنان عام 2006. وغداة انتخابه للرئاسة أيد الادارة السابقة في معارضة أي وقف لاطلاق النار في العدوان الاسرائيلي الشامل على قطاع غزة آخر عام 2008 وأوائل العام التالي، قبل أن يتبنى وهو في سدة الرئاسة تعهدات سلفه جورج دبليو. بوش لدولة الاحتلال في رسالته الشهيرة الى رئيس وزرائها الأسبق آرييل شارون في 14/4/2004 (لا عودة لحدود 4/6/1967، ولا عودة للاجئين الفلسطينيين، ولا تفكيك للمستعمرات الاستيطانية الكبرى في القدس المحتلة بخاصة)، وقبل أن يستخدم حق النقض "الفيتو " لأول مرة في عهده في شباط / فبراير الماضي ضد مشروع قرار عربي – فلسطيني ضد الاستعمار الاستيطاني الذي يكاد يهود ما تبقى من فلسطين في القدس بخاصة.
وهذا تاريخ قريب لا يترك مجالا لأي شك في أن أوباما سوف يكون منسجما مع هذا التاريخ كي يعطي الضوء الأخضر الأميركي لعدوان اسرائيلي جديد على الشعب الفلسطيني يحقق عسكريا ما قد تعجز الدبلوماسية الأميركية عن تحقيقه سياسيا في الأمم المتحدة وخارجها.
ومثلما يدفع "مبدأ أوباما " دولة الاحتلال الى الواجهة العسكرية فإنه يدفع الأوروبيين الى الواجهة الدبلوماسية لينصب عليهم غضب الشعب الفلسطيني بدل الولايات المتحدة، فهم منشغلون في البحث عن بدائل تثني منظمة التحرير عن الذهاب الى المتحدة، والقاسم المشترك بين كل هذه البدائل هو مبادلة الذهاب الى الهيئة الاممية ب "مبادرة سلام شاملة " تعيد المنظمة الى ثنائية المفاوضات المباشرة مع دولة الاحتلال على أساس خطاب أوباما الأخير في اللجنة الأميركية الاسرائيلية للشؤون العامة (ايباك) المستند في جوهره الى "تعهدات " سلفه بوش لدولة الاحتلال.
ولهذا الغرض كان ممثل اللجنة الرباعية الدولية (الاتحادان الاوروبي والروسي والأمم والولايات المتحدة) توني بلير، ومفوضة الاتحاد الاوروبي للشؤون الخارجية والأمن كاثرين آشتون، في المنطقة مؤخرا، اضافة الى مبعوثي الرئاسة الأميركية ديفيد هيل ودنيس روس اللذين أعيدا اليها هذا الأسبوع بعد حوالي أسبوع من مغادرتها في محاولة اللحظة الأخيرة لانجاز هذه المبادلة قبل توجه عباس الى نيويورك، ليكون فشل هذه الجهود مسوغا أميركيا لاطلاق يد دولة الاحتلال عسكريا كي تحقق بالقوة المسلحة ما فشلت الدبلوماسية في تحقيقه.
وفي مواجهة الحملة الأميركية عليه، والخطر "العسكري " المحدق على شعبه في حال فشلها في ثنيه عن مسعاه في الأمم المتحدة، ما زال الرئيس عباس "يدير الخد الآخر " ولا يريد "مواجهة مع الأميركيين "، ولا مع دولة الاحتلال، لكنه يدعو شعبه الى مسيرات "مليونية " تأييدا لمسعاه، بتعليمات صارمة بعدم الاحتكاك مع الاحتلال، جنودا ومستوطنين في نقاط التماس معهم، ويدعو العرب من امته الى مليونيات مماثلة، دون أن يكون في وسعه طبعا اصدار تعليمات مماثلة بعدم التماس مع الأميركيين ايضا، مع أن أضعف الايمان يقتضي أن يدعو شعبه وأمته الى مليونيات غاضبة ضد السياسة الخارجية الأميركية بعامة وحملة إدارة أوباما عليه بخاصة، مسيرات تدعو الى عدم استقبال هيل وروس وبلير وأمثالهم من القادمين للضغط عليه وعلى نظرائه العرب كي لا يساندوه في مسعاه، ولتكن دعوته ان تكون هذه المليونيات "سلمية "، إذ لا أحد يتوقع منه أن يدعو الى دعم المقاومة للاحتلال الأميركي في العراق ولمقاومة الهيمنة الأميركية في غير العراق وهو يرفض علنا وتكرارا مقاومة الاحتلال الاسرائيلي وراعيه الأميركي في وطنه وبين شعبه.