شرق أوسط جديد في عالم جديد
لم يشهد الشرق الأوسط، منذ أكثر من قرن من الزمان، تحوّلات جذرية إيجابية بوتيرة سريعة ومتسارعة، مثمرة ومثيرة للتفاؤل، مثل ما نشهده هذه الأيام.
كذلك، أيضا، هي صورة العالم اليوم، الذي لم يشهد تغيّرات جذرية منذ ثلاثة عقود، (مع سقوط الاتحاد السوفياتي، وهو السقوط الذي عنى انتهاء «الحرب الباردة» التي هي في الواقع «حرب عالمية ثالثة» تخلّلتها وعبّرت عنها حروب بالوكالة في غالبيتها، وحروب تحرير شعبية، أدّت الى زوال الاستعمار المباشر، وغير المباشر، عن جميع دول وشعوب آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، باستثناء واحد فقط، هو الاحتلال والاستعمار الإسرائيلي الذي ابتلِيت به الأمّة العربية، وشعبنا الفلسطيني بشكل خاص).
انطلقت الشّرارة الأولى لبدء هذا التّغيير الكبير على صعيد العالم، وعلى صعيد الشرق الأوسط، قبل أربعة عشر شهراً، (يوم 24 شباط/فبراير 2022) مع انفجار الأزمة الأوكرانية، و«العملية العسكرية الخاصة» التي أطلقتها روسيا الاتحادية، وهي الأزمة التي ما زالت مستمرة، دون أن يكون هناك موعد واضح لانتهائها.
فرضت الولايات المتحّدة الأمريكية، خلال العقود الثلاثة الماضية، نظاماً عالمياً أسوأ من النظامين العالميّين السابقين، اللذين تشكّلا مع انتهاء الحرب العالمية الأولى، التي أنهت الإمبراطورية العثمانية.
لكن، وبدل أن تتحرّر شعوب الأمة العربية، بزوال الإمبراطورية العثمانية، تمّ تقطيع أوصالها، بدءاً من «بلاد الشام» وبإطلاق «وعد بلفور» وبدء الإعداد لفصل المشرق العربي عن المغرب العربي، بالعمل على إقامة كيان صهيوني على ارض فلسطين.
أمّا النظام العالمي الذي تشكّل سنة 1945، مع انتهاء الحرب العالمية الثانية، فقد كانت نتيجته الأولى تمكين العصابات الصهيونية من إعلان إقامة «دولة إسرائيل» مع حرص شديد على اشتمال جغرافية ذلك الكيان على مساحة من فلسطين تمتد من حدودها الشمالية مع لبنان وسوريا، وحتى ميناء أم الرشراش (إيلات) على البحر الأحمر، ليكون الفصل بين آسيا وإفريقيا كاملاً، وضمان استمرارية هذا الكيان بتعزيز قدراته العسكرية والاقتصادية، من جهة، وبخلق كيانات ودول عربية متناحرة، من المحيط الأطلسي الى الخليج العربي، من جهة ثانية.
بعد هذين النظامين العالميّين، جاء، (على مدى العقود الثلاثة الماضية) «نظام القطب الواحد» الذي يترنّح هذه الأيام، وكانت الحركة الصهيونية وإسرائيل، المستفيد الأول منه، وكانت فلسطين وشعبها، ومعه كل الأمة العربية، الخاسر الأكبر، وفي صورة ما كان عليه الوضع الفلسطيني والعربي حتى الى ما قبل سنة واحدة، ما يشير الى ذلك بوضوح كامل.
لم يشهد الشرق الأوسط، منذ أكثر من قرن من الزمان، تحوّلات جذرية إيجابية بوتيرة سريعة ومتسارعة، مثمرة ومثيرة للتفاؤل، مثل ما نشهده هذه الأيام
صورة العالم اليوم مغايرة، بل ومناقضة، لكل ما سبق. وتنعكس صورة العالم الجديد على عالمنا العربي، وعلى الشرق الأوسط الكبير بشكل مباشر، وهذا ما لمسناه ونلمسه في كل تطوّر جوهري في عالمنا ومنطقتنا على مدى الأشهر الماضية، وتحديداً: منذ بدء الانقضاض على تفرّد أمريكا في فرض هيمنتها، ومعها كتلة الأنكلوساكسون، (بريطانيا وكندا واستراليا) بشكل خاص، ودول الغرب ومعها اليابان وكوريا الجنوبية، بشكل عام، على أحداث وتطورات الأوضاع في العالم.
يبدو أنه لا بد من توضيح. وللاختصار، قدر الإمكان، سأكتفي بالتركيز على نقطتين:
ـ النقطة الأولى: ما هو جوهر السياسة الأمريكية، الأنكلوساكسونية، الغربية، (ومعها «طفلتها المدلّلة، إسرائيل) مقابل جوهر السياسة الصينية البديلة؟.
ـ النقطة الثانية: ما هو جوهر الصادرات الأمريكية، وكل حلفائها وتابعيها، مقابل جوهر الصادرات الصينية، وحلفائها أيضاً؟
جوهر السياسة الأمريكية (عمليّاً) هو: التفريق بين الدول والشعوب، بين الأديان والطوائف، بين الأعراق والقبائل؛ هو: اختلاق وتأجيج أسباب العداء بين الناس، وإقامة الحواجز والجدران بين الشعوب والدول، وتوتير الأوضاع على كل حدود كل الدّول في كل القارات في العالم.
جوهر السياسة الصينّية (عمليّاً) هو: ما أعطته الصين اسم «مبادرة الحزام والطريق» لإعادة إحياء «طريق الحرير» من أجل إقامة أكبر مشروع بنية تحتية في تاريخ البشرية، يربط بين جميع الدول في جميع قارات العالم. وهذا المشروع العملاق أطلقته الصين عام 2013، ولتأكيد مدى اهتمامها بإنجازه، تم دمجه في دستور جمهورية الصين الشعبية عام 2017، باعتباره، كما جاء في نصّه «محاولة لتعزيز الاتصال الإقليمي، واحتضان مستقبل أكثر إشراقاً».
ثم، عن الصادرات:
ينصب تركيز أمريكا على تصدير كافة أنواع الأسلحة وأجهزة التجسّس لجميع الدول والشعوب، لمواجهة جيرانها التي حرصت وحرضّت على افتعال وتأجيج الصراعات والحروب بينها. في حين أن تركيز الصين مُنصبّ على تصدير البضائع المدنية والخدمات، وبذل الجهود على بناء جسور التفاهم والتعاون والتكامل بين جميع الدول مع جميع جيرانها.
في منطقتنا: حرصت أمريكا على تخريب علاقات الدول العربية مع بعضها البعض، ومع جيرانها ومحيطها، من إيران الى تركيا الى إثيوبيا وغيرها، وفي إثارة النعرات العرقية، العرب والفرس والأتراك والأكراد والأمازيغ وغيرهم، (هل نقول اليهود أيضاً؟) وفي إثارة نعرات الخلاف بين الأديان، (شمال السودان وجنوبه مثلاً) و(هل نقول اليهود أيضاً؟) والطوائف: السُّنة والشّيعة؛ ذلك في حين بذلت الصين جهوداً مثمرة في إعادة العلاقة بين المملكة العربية السعوديّة والجمهورية الإسلامية الإيرانية، وهو ما أدّى الى بداية نشوء شرق أوسط جديد، واعد، أكثر استقراراً، ومبشّر بمستقبل من السلام والتعاون.
هذه هي صورة الوضع في العالم وفي منطقتنا. فهل في صورة وحالة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، إضافة لما لاحظه المفكّر الفلسطيني الكبير الراحل، إدوارد سعيد، في أول زيارة له لفلسطين تحت الاحتلال والاستعمار الإسرائيلي، من أنه لاحظ وجود أسيجة أسلاك شائكة، وحواجز، وجدران عازلة في وطنه بكثافة لا مثيل لها في أي بلد في العالم، ما يشبه ذلك؟
كاتب فلسطيني
القدس العربي