المفتاح في إسطنبول!
تكهنت معظم وسائل الإعلام الفرنسية، فيما التزمت مثيلاتها الأوروبية مزيدا من الحذر، بفوز كمال كليتشدار أوغولو في الانتخابات الرئاسية التركية على خصمه الرئيس الحالي رجب طيب اردوغان من الجولة الأولى وبفارق لافت. وقليلة كانت الأصوات التي تنبه إلى ضآلة احتمال أن تجسد هذه الانتخابات غير تكريس لتوجه سياسي وإيديولوجي محافظين ظلا يستقطبان شريحة واسعة من الناخبين الأتراك منذ وصول حزب العدالة والتنمية إلى سدة الحكم سنة 2002.
نفس التأويلات غير الدقيقة أمكن لنا سماعها عندما اعتقد البعض أن الشتات التركي المقيم في أوروبا سيتفاعل أكثر مع توجهات كليتشدار أوغلو التي يصفها مراقبون بالليبرالية بينما يذكر مراقبون آخرون أن الخيار الحقيقي ما هو سوى خيار بين توجهين قوميين كلاهما وضعا الجارة الأوروبية في منطقة حيطة وتوجس.
دائما تبقي الجارة الأوروبية نصب عينيها الملفات الأساسية مثل الحرب في أوكرانيا والقضية الكردية والحدود السورية التركية المشتركة، وتبقيها بطبيعة الحال تحت مجهر منظمة حلف شمال الأطلسي التي عرف أردوغان جيدا كيف يتصرف فيها على نمط يرسي سياسته الدولية المعتمدة على النفعية كليا.
رفع كليتشدار أوغلو راية الأقليات وجعل الاعتراف بها محورا رئيسيا من حملته لكن هذه الورقة لم تصمد أمام ورقة اردوغان الثقافية التي لا تقل ارتباطا بهوية البلد
لا يمكن تفادي في التأويل أن الشتات الأوروبي التركي منخرط منذ بداية الستينيات في التيار المحافظ المعارض لعلمانية كمال اتاتورك. يرى كثيرون أن اردوغان وريث مباشر لنجم الدين أربكان وتوجهات مللي جوروش الأصولية، كما يرى كثيرون أن أحزابا تمثل الواجهة الليبرالية مثل حزب الشعوب الديمقراطي الكردي لا يغري الشريحة الأوسع من الناخبين الذين بقوا متمسكين بالخيار المحافظ ذاته (وهو ما يشهد عليه أيضا تاريخ الأحزاب، فمثلا، سرعان ما تحول حزب مثل «سعدت»، الذي كانت تعلق عليه آمال بترجيح كفة الحسم لصالح المعارضات الليبرالية في التاريخ السياسي التركي، إلى مجرة التيار المحافظ الذي امتصها امتصاصا.
رفع كليتشدار أوغلو راية الأقليات وجعل الاعتراف بها محورا رئيسيا من حملته. لكن هذه الورقة الثقافية اللصيقة بالهوية التركية لم تصمد أمام ورقة اردوغان الثقافية التي لا تقل ارتباطا بهوية البلد والتي لم يتوقف مراقبون عن اعتبارها رابحة سلفا مهما تكن السيناريوهات، وهي الورقة القومية.
ولأن للورقة القومية التي يدفعها اردوغان إلى الأمام دائما مدعومة بالواجهة الاقتصادية لا تني شعبية الرجل بدورها عن تدعيم نفسها بمرور الأيام. اقتصاديا، صحيح أن العملة الوطنية التركية انهارت بحوالي 95 في المئة من قيمتها خلال الخمس عشرة سنة الأخيرة، لكن الصحيح أيضا أن السواد الأعظم من الناخبين غير الاسطنبوليين ظلوا متشبثين بـ «صانع المعجزة التركية «. فجولة في قونية أو في جبال طوروس أو في الأناضول تثبت ترسيخا لصور وتمثلات معاكسة للتغيير، على نفس النمط الذي بقي فيه الخطاب القومي الطوراني متأصلا في النفوس بحيث وقف أيضا في وجه التغيير.
حينئذ، رهانات تركيا خارجية أكثر منها داخلية. وبالتالي، رهاناتها من رهاناتنا. تركيا عضو محوري في منظمة حلف شمال الأطلسي مما يجعل المقاربة الدولية لتركيا مقاربة محكومة بزوايا مصيرية. فلا ملف الهجرة ولا ملف أوكرانيا ولا الملف الكردي بمعزل عن التحدي الأكبر الذي يواجه تركيا ويواجهنا: طموح تركيا في أن تصبح القوة الإقليمية الرئيسية في منطقة أوراسيا. تركيا التي تملك في هذا السبيل ورقة أخرى أساسية ألا وهي استمرار مصداقيتها في نظر المعسكر الغربي رغم تضارب المصالح، فحتى لو ارتفعت حدة التوتر وتناقضت المصالح في ملفات عديدة نذكر منها غاز شرق المتوسط، دعم أذربيجان في أزمة ناغورني كاراباخ، نشر إيديولوجيا معاكسة للعلمانية في أوروبا بالتأثير الناعم، يعرف المعسكر الغربي أن تركيا، في نفس الوقت الذي تعزف فيه على هذه الأوتار، تمثل أيضا في الملف السوري وكذلك الليبي وحتى الأوكراني رغم ازدواجيتها، وفي الملف الإيراني أيضا، صمام أمان لا يمكن المرور عليه مرور الكرام.
أجل، رهانات تركيا أكبر من رهاناتنا. إنها رهاناتنا أيضا قلنا، لكنها أيضا رهاناتها. بكل التأكيد، مفتاح تركيا الغد ونفوذها في المنطقة موجود في تركيا أولا، لكن في اسطنبول أكثر منه في أنقره. هذا معروف، معروف عن الحاضنة التاريخية للتنوير الفكري، مهد الانفتاح والتحرر. إنها وحدها قادرة على تحقيق الحراك الذي ينتظره كثيرون.
باحث أكاديمي وإعلامي فرنسي
القدس العربي