«هيروشيما يا حبي»… هيروشيما بصيغة أخرى
لئن انعقدت قمة دول مجموعة السبع في هيروشيما قبل أيام، ولئن كان فولوديمير زيلينسكي هو من تصدر الواجهة وليس أي من القياديين الآخرين، كدت أكتب «التقليديين»، سيخطئ من يتوقع أن مدينة هيروشيما موقع «عرضي» اختير لمجرد أن يكون لمشعل الديموقراطية في آسيا، اليابان ومدينته الرمزية، هيروشيما، محل من الإعراب.
كل هذا صحيح، لكن الصحيح أيضا أن رمزية هيروشيما من منظور التحليل الحربي سجل أول وآخر استخدام للسلاح النووي في حرب عالمية.
هذا ما لم تفوته الكاتبة الفرنسية مارغريت دوراس، حين كلفها المخرج الفرنسي آلان رينيه كتابة سيناريو مبني على حبكة لقاء بين ممثلة فرنسية قدمت لتصوير فلم عن السلام، ومهندس ياباني جند هو وأسرته في الحرب العالمية الثانية.
أحب بعضهما كما صارا مناجيين أحدهما للآخر، فضفضت له عما حمل إليها ركام السنين من شجون، منها وقوعها في حب جندي ألماني وتعرضها لـ «حلق الرأس»، أي الشتيمة التي كانت تنزل على من يتهم بالتعاون مع العدو الألماني حينها.
فضفض لها كيف لم تنج أسرته من القصف النووي الأمريكي، وكيف أن أهل المدينة خاضوا تجربة العدم كما لم يخوضوها يوما، وكيف أن ذات العدم استمر في التسلط فوق رؤوسهم كمأزق نفسي إن صح المفهوم وأظن أنه يصح.
يفوق قلب الموضوع حبكة القصة ويلاقيها معا… فقلب الموضوع هو السلام، أو بالأحرى، نزع السلاح في خدمة السلام.
تعيدنا القصة إلى أيام لم نكن فيها نتحدث عن نزع السلاح ولا عن قوة الردع ولا عن أجهزة الطرد ولا عن الانشطار. لم نكن نتحدث عن مصطلحات النووي كما نعهدها اليوم. لكن هذه المقومات كانت حاضرة كلها، إن لم يكن بالفعل، فبالقوة (وإن كانت القوة النووية الأمريكية قد فعلت فعلها رأسا).
لكن ما سيكون حاضرا بالعقل وبالقوة معا هو الشعر، أو بالأحرى الشعر النثري والشعر الصوري. شعر السيناريو- شعر الكتابة – وشعر الصورة، شعر السينما.
في البداية كانت القنبلة. بهذا المسمى يمكننا عنونة افتتاح الفلم – افتتاح السيناريو – افتتاح العمل الأدبي، فما الثلاثة إلا وحدة واحدة (وحدة «عضوية» كما يقول النقاد). فصل تمهيدي لا تأتيه الشخصيات لسبب يفهمه القارئ – المشاهد، بل يتفهمه، بل يتفاعل معه: الدمار منتهى اللا إنسانية. لا مبرر لوجود شخصيات في «حضن» مدينة من خراب.
لكن رغم ذلك، الشخصيات ستجدها. ستجد شخصيتي القصة التي لن تتطور حبكتها دون أن تتطور معها رسالة الفلم: إدانة أول جريمة نووية في التاريخ المعاصر، بل في التاريخ.
«لم تري شيئا من هيروشيما» يقول البطل – الحبيب، للبطلة – الحبيبة. لم تري هيروشيما كما رأيتها أنا، كما رآها أهلها، وكما عاشروها.
لم تروا هيروشيما. أيضا قالها أنطونيو جوتييرز بصورة غير مباشرة، حين توجه إلى جمهور الحاضرين في القمة، حين أراد في لفتة بعيدة – لكن في نفس الوقت قريبة – من هرج ومرج تفاصيل الأخبار أن يذكر الإنسانية بمسؤولياتها منخرطا في صيرورة تتساوق فيها معدلات النمو، مقتضيات الحرب في أوكرانيا، والمسؤولية الأخلاقية.
لا لهيروشيما جديدة، وإن بصيغة أخرى، تتجمع فيها بلايا العصر من انهيار قدرة شرائية وانفجار فقاعات عقارية وفيضانات ونزوح ولجوء وجوائح لا إنسانية تطال البشرية.
الفلم رائع، القصة رائعة. «هيروشيما يا حبي» تدرس في شعب الأدب الفرنسي عندنا. درستها. ومشهد الانفجار الذي كنا حضرناه نحن الطلاب في سينما الفنون والمحاولات بمدينتنا انحفر في ذاكرتنا. هنا تماهت رسالة الأدب مع رسالة الجيوسياسة. فليتذكر عصرنا.
باحث أكاديمي وإعلامي فرنسي
القدس العربي