بوتين أو جناية الاستبداد على اللغة
يروي الكاتب الفرنسي جيل برّو، صاحب الكتاب الشهير «صديقنا الملك» والتوطئة الشهيرة لكتاب جان-بيار توكوا ونيكولا بو «صديقنا بن علي: الوجه المخفي للمعجزة التونسية» أنه عندما كان شابا في خمسينيات القرن العشرين لم يكن يعرف، مثله في ذلك مثل معظم الفرنسيين، أي شيء عما ترتكبه فرنسا من انتهاكات ومظالم وجرائم في مستعمراتها، وخصوصا في الجزائر. ذلك أن أشرطة «الأخبار» الدعائية التي كانت تبث في قاعات السينما قبل بدء الفيلم (كانت تلك هي العادة في الأيام الخوالي، أما بعد انتشار التلفزيون، بأخباره الموجهة حكوميا، فقد استعيض عن الأخبار قبل الفيلم السينمائي بقصار أفلام تشارلي تشابلن) إنما كانت تصور المستعمرات على أنها جنان أرضية سعيدة يعمها الازدهار وتسودها الحرية، وتوهم الجمهور بأن السلطات تسوس المستعمرات بقيم الديمقراطية الليبرالية ذاتها التي تسوس بها حكومة باريس البر الفرنسي. ولكن ما أن زار برّو الجزائر حتى اكتشف حقيقة البؤس الشامل والإفقار الممنهج والتنكيل الهمجي. وما هي إلا سنوات قليلة حتى اكتشف الشعب الفرنسي كله حقيقة جرائم التعذيب والتقتيل والتهجير التي كان يقترفها الجيش الفرنسي ردا على حرب التحرير الشعبية الجزائرية. وقد ظلت سلطات باريس تعاند لسنوات وترفض الاعتراف بأنها حرب، فكان أن شاع في الخطاب الرسمي وحتى الإعلامي تسمية حرب الجزائر بـ«الأحداث» تماما كما أن بوتين ونظامه يرفضان تسمية غزو أوكرانيا حربا ويكتفيان بتسميتها «عملية خاصة». ومتى استفاق الشعب الفرنسي على حقيقة حرب التحرير الجزائرية؟ عندما بدأ نطاق العمليات الفدائية يتسع ليصل بعضها إلى قلب الأراضي الفرنسية.
وها أنه يبدو الآن أن شيئا من هذا القبيل بدأ يحصل في روسيا. فقد ظل الشعب الروسي لأكثر من عام غافلا عن حرب العدوان التي يشنها جيشه في أوكرانيا، لأسباب منها أنها حرب قصية في بلاد نائية (إذ إن عظم مساحة روسيا يجعل حتى بلدان الجوار أماكن بعيدة) لا يرى منها الشعب الروسي شيئا ولا يناله منها أي ضرر. ولكن ما حدث الثلاثاء قلب كل الموازين النفسية.
إذ إن وابل المسيّرات التي قصفت مناطق مدنية في موسكو والأضرار التي لحقت المباني والهلع الذين أصاب السكان، كل ذلك أيقظ الشعب الروسي على حقيقة أن ما يجري في أوكرانيا حرب، وأنها لم تعد حربا وحيدة الاتجاه، بل إن من شأنها من هنا فصاعدا أن تؤذي المدنيين على كلا الجانبين (هذه هي مأساة الحروب المعاصرة منذ بداية القرن العشرين: الضحايا المدنيون أكثر بكثير من قتلى العسكر). ولا بد أن عامة الروس انتبهوا إلى أن الهجمات على موسكو وقعت بعد أيام فقط من تمكن وحدة قتالية روسية معارضة لنظام بوتين من التوغل داخل بلغورود الروسية انطلاقا من الحدود الأوكرانية والاشتباك مع عناصر من الجيش الروسي.
فهل سيغير هذا من موقف الشعب الروسي من الحرب القذرة التي تشن باسمه؟ يصعب الجواب. إذ لا بد من تأكيد صواب ملاحظة الإعلام الغربي بشأن سلبية موقف الشعب الروسي المتسم بالخوف مقارنة بفاعلية موقف الشعب الإيراني الذي ساند النساء والفتيات المتظاهرات ضد نفاق بوليس الأخلاق رغم وحشية القمع الذي أنزله النظام بالمحتجين والمحتجات.
ومن مضحكات القاموس البوتيني الثرثار المجوّف للغة المفرغ لها من معانيها، مثلما هو شأن كل استبداد مع لغة البلاد، أنه نعت الهجمات على موسكو بأنها أعمال إرهابية! وما يعنيه هذا هو أن القصف الروسي المستمر لأوكرانيا وكييف منذ خمسة عشر شهرا إنما هو من الأعمال الخيرية! إذ في مقابل هذه الهجمة الأوكرانية الأولى (والوحيدة حتى الآن) على موسكو، فإن كييف تعرضت في شهر مايو لما لا يقل عن 17 هجمة روسية. ولكن بوتين لا يزال ممعنا في الهروب إلى الأمام. وما إعلان ألكسندر لوكاشينكو بدء نقل الرؤوس النووية التي كان بوتين قد تعهد في مارس بتركيزها في بيلاروسيا إلا دليل على أن بوتين لا يزال يجري على غير هدى وأنه يقود مركبة بلا فرامل. بل الأدهى أن لوكاشينكو أعلن أن أي دولة (وذكر كازاخستان ورئيسها بالاسم) تساند روسيا في حربها مع أوكرانيا سوف تزود بأسلحة نووية! فهل بوتين مستعد فعلا لاستخدام السلاح النووي؟ هذا ما لا تستبعده المعارضة كسينيا سوبتشاك التي تعرف طريقة تفكير ضابط الكي جي بي السابق حق المعرفة.
القدس العربي