تونس تحت إبط الجزائر؟
في المظهر تبدو العلاقات الجزائرية التونسية دائما مثالية. لكن في الجوهر، وبعيدا عن خطابات الاستهلاك الدبلوماسي والإعلامي، تكتنفها منذ عقود المطبات والكثير من الصعود والهبوط. وقد نجح قادة البلدين باستمرار في إدارة الوضع الذي يطرأ على العلاقات الثنائية. أثناء شهور العسل يجري تمجيد العلاقات حتى تبدو للملاحظ البعيد طوباوية، وأثناء الأزمات يحرص القادة في الجهتين على إبقاء الاختلافات طي الكتمان.
نشأنا في الجزائر وسط اعتقاد عام بأن تونس هي الشقيقة الصغرى التي تحتاج إلينا دائما ولا نحتاج إليها أبدا، وبأننا نملك الكثير من أدوات التأثير عليها بينما لا تملك هي شيئا تجاهنا.
قد لا يوجد جزائري واحد لم يسمع بتلك المقولة الطريفة المنسوبة إلى الراحل الحبيب بورقيبة: يُروى أن أزمة طرأت بين البلدين في سبعينيات القرن الماضي، فقرر الرئيس هواري بومدين أثناءها قطع الكهرباء عن تونس عقابا لبورقيبة. وينسب المخيال الشعبي الجزائري لبورقيبة أنه في ما يشبه لحظة ندم أسرَّ لبعض المقربين منه: قلنا كليمة بَـيّْتنا سي بومدين في ظليمة!
أستبعد أن تكون هذه الواقعة، ومعها المقولة، صحيحة، لكنها حتما مستوحاة من مزاج موجود وتقول الكثير عن حقيقة النظرة الجزائرية لتونس. هذه المقولة عادت اليوم لتصيغ الرؤية الجزائرية لتونس. الاعتقاد السائد في الجزائر اليوم أن تونس مأزومة وعلى وشك الانهيار، وأن الجزائر وحدها قادرة على حمايتها. هناك همس يشبه التذكير المستمر بأن الجزائريين أنقذوا الموسم السياحي التونسي العام الماضي بقرار سياسي واحد، وسيكون في متناولهم تدمير الموسم المقبل بقرار مماثل. وهناك اعتقاد أن الجزائر تفعل الكثير لصالح تونس، وتستطيع أن تفعل أكثر، وأن على تونس أن تشعر بالامتنان وواجب الشكر للجزائر.
يقابل هذا المزاج الجزائري آخر في تونس يرفض ما يعتبره أبوة من الجارة الكبرى. تحفل وسائط التواصل الاجتماعي في تونس بكثير من الكلام في هذا الاتجاه. ولو استعادت وسائل الإعلام التونسية حريتها كاملة لسمع الجزائريون كلاما لا يعجبهم بسبب هذه «الأبوة».
لذلك قد لا تكون العلاقات الجزائرية التونسية حاليا وردية في الجوهر كما تبدو ظاهريا. ومن الأسباب الأخرى، خطاب رسمي جزائري يجاري الموقف الأوروبي والإيطالي بالذات، عن الخوف على تونس من الانهيار وضرورة مساعدتها على تجاوز أزماتها. لكن المسؤولين في تونس لا يستطيعون الكثير حيال الجزائر لأنهم يحتاجون إليها وخسارتها لن تخدمهم. لهذا اكتفوا بالصمت عندما بدرت من مسؤولين جزائريين، أحدهم عبد المجيد تبون في إيطاليا، مواقف فُسِّرت بأنها نوع من التدخل في شؤون تونس.
حقيقة أن تونس في حاجة إلى الجزائر ولا تملك ترف خسارتها ساطعة لا جدال فيها. لكن الحقيقة الأخرى التي لا تقل لمعانا هي أن الجزائر كذلك في حاجة إلى تونس
تلبي الجزائر نحو 55٪ من حاجة تونس من الغاز. وتعتمد تونس على الغاز في توليد 95٪ من طاقتها الكهربائية. هذا وحده يكفي ليتجاوز المسؤولون في تونس عن التصريحات الجزائرية.
قبل أن تصل تونس إلى هذا المستوى من التردي، كان هامش حريتها أوسع وشجاعتها أكبر. في عهد بورقيبة تميزت علاقاتها الإقليمية والدولية بالنضج، وفي عهد بن علي كانت تبحث عن الواقعية. وبعد 2011 دخلت مرحلة التيه الدبلوماسي. في شهر كانون الأول (ديسمبر) 1967 سمحت تونس للعقيد الطاهر الزبيري، قائد أركان الجيش الجزائري بالهروب إلى أراضيها ومنها إلى أوروبا، إثر محاولة انقلابية فاشلة ودموية قادها ضد الرئيس بومدين. تحمَّل بومدين تصرف بورقيبة لكنه لم يغفره حتى مات. وفي 1984 ردّت الجزائر بالمثل باستضافتها رئيس الوزراء محمد مزالي الهارب من بطش بورقيبة ومحيطه. في 1986 طالبت تونس برسوم أكبر على الغاز الجزائري العابر من أراضيها إلى إيطاليا. يقال إن رئيس الحكومة الإيطالي آنذاك، الاشتراكي بيتينو كراكسي همس في أذن الجزائريين بأن بورقيبة استنفد وقته ويجب التصرف. بعد نحو سنة أُزيح بورقيبة في انقلاب طبي نفذه وزير داخليته زين العابدين بن علي. في 1994 يفر كراكسي من القضاء الإيطالي الذي كان يتابعه في قضايا فساد، فيجد في منتجع الحمامات بتونس ملجأه إلى أن توفي هناك في كانون الثاني (يناير) 2000.
أنصار فرضية أن الجزائر شديدة الحضور في تونس يستندون إلى هذه الوقائع وغيرها لدعم فرضيتهم. لكن مخطئ من يعتقد أن تونس لا تثير أيّ نوع من الشعور لدى المسؤولين الجزائريين. عكس الشائع في الجزائر، خوف القادة الجزائريين من تونس بعد 2011 مزدوج. خوف من تصدير العدوى الديمقراطية غداة نجاح الثورة على نظام بن علي، ثم خوف من تصدير الاضطرابات الاجتماعية والأمنية بعد أن تعطلت التجربة الديمقراطية ووقعت البلاد فرسية لأزمة اقتصادية خانقة.
حرص الجزائر على الاطمئنان لتونس نابع من أسباب عديدة ووجيهة. في الوقت الحالي تونس هي الحدود الوحيدة الآمنة للجزائر بينما يبدو الباقي مثيرا للقلق والمخاوف.. تأزم خطير مع المغرب، اضطرابات في ليبيا مرشحة للأسوأ، وغموض لا يبعث على الارتياح في أقصى الجنوب حيث مالي والنيجر.
إلى حد الآن يبدو المسار كما تبتغيه الجزائر، ومنسوب الثقة في الرئيس قيس سعيّد كبيرا. لكن لا شيء يضمن بقاء الريح في الاتجاه نفسه على المدى البعيد وحتى القريب. فتونس مقبلة على مزيد من الأزمات، وسعيّد محاط بضغوط داخلية وخارجية وإغراءات قوية تحتاج الجزائر إلى جهد استثنائي لحمايته منها وإبقاء تونس في فلكها.
حقيقة أن تونس في حاجة إلى الجزائر ولا تملك ترف خسارتها ساطعة لا جدال فيها. لكن الحقيقة الأخرى التي لا تقل لمعانا هي أن الجزائر كذلك في حاجة إلى تونس ولا تملك ترف خسارتها.
كاتب صحافي جزائري
القدس العربي