عن فرص الهجرة للسودانيين
مع احتدام المعارك في الخرطوم، وما تزامن معها من تصاعد في عمليات السلب والنهب والتعدي على الملكيات الخاصة والحرمات، آثر الآلاف من سكان العاصمة مغادرتها بشكل سريع، هكذا، وبينما كان حملة الإقامات والجنسيات الأجنبية يسافرون لدول إقاماتهم، كان آخرون يفضلون النزوح لأطراف الخرطوم، أو للأقاليم الأخرى البعيدة عن الاقتتال، بينما اختارت فئة ثالثة الانتقال إلى الجارة الشمالية مصر، التي كانت في نظرهم الخيار الأفضل والأقرب من بين الخيارات المتاحة.
وفق هذه الظروف وجد كثير من الأسر والشباب أنفسهم وقد تحولوا بين يوم وليلة لمجرد لاجئين تفرقت بهم السبل. خرج عشرات الآلاف على عجل متجهين نحو المعابر الحدودية مع مصر، بهدف النجاة بأنفسهم، من دون أن يمتلكوا إجابات واضحة حول موعد عودتهم أو مستقبل أعمالهم أو دراستهم، أو حتى ما إذا كان بالإمكان استكمال هذه الأعمال، وتلك الدراسة في وقت قريب.
الصور، التي حملوها في ذاكرتهم للميليشيا وهي تبدأ بطرد الناس من بيوتهم وأملاكهم، قبل أن تبدأ باستهداف كل مظاهر الحياة المدنية في العاصمة، ثم ما حدث من توسع في التخريب والتدمير، لدرجة تجعل أي مشروع لإعادة الإعمار يتكلف مليارات الدولارات، كل ذلك كان يجعل من التمسك بالأمل أمراً صعباً. هذه الظروف، التي تشبه ما مرّت به كثير من دول الجوار المأزومة، كانت مثالية لنشر الأخبار الخاصة بفرص الهجرة للدول الغربية، فكثرت فيديوهات البث المباشر والمحتويات التي تحكي عن فرص الهجرة للبلدان المختلفة. انطلق كثير من هذه المحتويات من مبدأ خادع هو إحساس العالم بمعاناة أهل السودان، وتعاطفه معهم ورغبته في مساعدتهم.
رغم كل الأحداث الحزينة التي يمر بها السودان حالياً، فهو لا يصنف كدولة ذات أولوية بالنسبة لدول الاستقبال، لأن الحرب في الخرطوم، ولم تمتد للمدن والمناطق الأخرى
موضوع الهجرة كان على الدوام من الموضوعات التي تحصد الكثير من «الإعجابات» على وسائل التواصل الاجتماعي، ويمكن لأي صانع محتوى، إن رغب في مضاعفة أعداد متابعيه ومشاهديه، أن يجرب وضع مادة تحت عنوان مثير مثل: «الفرصة الذهبية للهجرة إلى كندا»، أو «كيف تنتقل إلى أستراليا؟»، أو «ألمانيا تحتاج إلى المهاجرين»، ثم ينظر كيف سيضمن له ذلك الحصول على أعداد من المهتمين تفوق بشكل كبير أي أعداد كان يمكنه أن يحصل عليها إذا تحدث في غير ذلك من الموضوعات. هذا الأمر ليس خاصاً بالسودانيين وليس متعلقاً بالأزمة الحالية، فالهجرة كانت دائماً موضوعاً مشوقاً لشباب دول الجنوب، الذين كانوا يرون أحلامهم تتكسر، وأعمارهم تضيع تحت ضغط الفشل السياسي والاقتصادي. كان الانتقال إلى الدول الغربية، خاصة أوروبا القريبة جغرافياً، بالنسبة لهؤلاء الشباب بمثابة الأمل الوحيد لديهم لتغيير الحياة نحو الأفضل. السودانيون بدورهم، بداية من احتدام أزمة إقليم دارفور، قبل عقدين من الزمان، ونهاية بالسنوات الأخيرة، التي زادت فيها حدة التراجع الاقتصادي، كانوا قد جربوا كل طرق الهجرة، عبر البحر من خلال دول الشمال الافريقي، أو عبر الحدود التركية، أو حتى عبر محاولة الوصول للأراضي الفلسطينية المحتلة. كان الواقع يخبر أولئك الشباب أن الأوروبيين يتلاعبون بهم حين يحدثونهم عن تجريب الهجرة النظامية أو الشرعية، ففي الواقع فإن أوروبا كانت تغلق أبوابها دونهم، وتمتنع حتى عن تقديم تأشيرات مؤهلة للعمل، لتبقى الفرصة الوحيدة المتاحة للوصول هي عن طريق التهريب بالبر أو البحر، على الرغم مما يكتنف ذلك من مصاعب. من المفهوم أن تزداد الرغبة أكثر في الهجرة في ظل الوضع المأساوي الحالي، ولكن امتلاك الرغبة العارمة ليس كافياً، حيث تخبرنا قصص المهاجرين، أن التفكير غير العقلاني كثيراً ما كان يجعل المرء يسقط في مآزق قد تصل حد تعريض حياته للخطر. أدنى هذه المخاطر هي أن يكون المهتم مجرد وسيلة لزيادة رواج صفحات وفيديوهات يصممها هواة لا علم حقيقي لهم بقوانين الهجرة، وكل همهم هو استغلال طموحات الشباب وكسب متابعين. أبرز مثال على ذلك هم أولئك الذين ينقلون بشكل تشويقي بعض الأخبار المختلقة، أو التي لا مرجعية معتمدة لها من قبيل وجود تأشيرة كندية خاصة بالسودانيين، أو وجود فرص للتقديم للجوء الأوروبي من على البعد، أو غير ذلك مما يرون أنه قد يشكل عنواناً جاذباً. أما أعلى هذه المخاطر فهو التحول لضحية جديدة، عبر الوقوع في شرك دفع أموال طائلة مقابل الحصول على تأشيرة أوروبية أو غربية، أو عبر وعود تأمين وسيلة مناسبة للانتقال لبلد أوروبي. يتفرع عن هذا النوع من المخاطر تفاصيل مأساوية أخرى يعرفها من جربوا طرق الانتقال السرية عبر المساحات المظلمة في الشمال الافريقي. أولئك كانوا شاهدين على وقوع مهاجرين ومهاجرات ضحايا لشبكات الاتجار بالبشر، أو الابتزاز، سوف يكون من المفيد هنا الاستماع لحكايات المهاجرين، الذين كانوا شهوداً على تفاصيل من قبيل التعذيب أو الاغتصاب أو الإجبار على ممارسة الدعارة، وهي كلها أمور تتجاوز صعوبتها مجرد المخاطرة برحلة بحرية.
من المهم هنا تفكيك السردية، التي توقع الكثيرين في ورطة الأمل، وهي التي تتعلق باهتمام الغربيين بالمأساة السودانية، وحرصهم على التكفل بالفارين من الحرب، ربما تكون التصريحات الغربية الداعمة والمضللة هي السبب في وجود ذلك الخلط، لكن نظرة إلى تعامل الغربيين والأوروبيين مع مآسي مجاورة كالمأساة السورية، بكل ضحاياها وتداعياتها، كفيلة بأن توضح وزن وأهمية هذه التصريحات الغربية، وما إذا كان بالإمكان الاتكاء عليها أو الوثوق بها، فحتى في أوج الأزمة، كان السوريون الفارون بحياتهم معرضين لأن يتم رفض استقبالهم كلاجئين، في حين كانت تقبل أعداد منهم بعد منحهم بطاقات للحماية المؤقتة، التي لا تعطي صاحبها حقاً كاملًا في البقاء الدائم ولا تجعله يتمتع بحقوق المواطنة، بل يبقى مهدداً بسحب أوراقه أو إعادته إلى بلده. يجب أن نفرق أيضاً ونحن نستمع إلى أحاديث حول «التسهيلات» المتعلقة بتأشيرات الدخول بين أسر حملة الجوازات الأجنبية، وأقارب المقيمين في الخارج وهي الفئات، التي تظن السفارات الغربية أن عليها أن تهتم بها، والآخرين من الذين يريدون أن يخرجوا لأول مرة، والذين يتم في الغالب تركهم لمصيرهم. هذا التجاهل يشمل حتى أولئك الذين قدموا خدمات جليلة لدول غربية، وما صورة المتعاونين الأفغان مع الأمريكيين وهم يتساقطون عن طائرة الإجلاء عنا ببعيدة. علينا أيضاً أن نضع في الاعتبار، أنه على الرغم من كل الأحداث الحزينة التي يمر بها السودان حالياً، فهو لا يصنف كدولة ذات أولوية بالنسبة لدول الاستقبال، بسبب أن الحرب، وإن جعلت الحياة في الخرطوم صعبة، إلا أنها لم تمتد للمدن والمناطق الأخرى، التي يعيش أغلبها حياة هادئة. السفارات الغربية قبل مغادرتها الخرطوم أتلفت الكثير من وثائق السفر، بما فيها جوازات كان بعضها يحمل تأشيرة الدخول، في تفسير هذه الطريقة الغريبة في التعامل مع وثائق كانت تعني أمل النجاة الوحيد بالنسبة لأصحابها، يرى البعض أن السبب ربما كان الخشية من استخدام التأشيرة القصيرة الممنوحة كفرصة للهجرة الدائمة، خاصة أنه سيكون من الصعب مطالبة القادمين بالعودة في ظل الظروف الحالية. كل ما سبق لا يعني أنه ليس من حق الطامحين للهجرة تجريب حظهم والسعي لطرق الأبواب المتاحة، ولكن المطلوب فقط هو التأني، ما يساعد على تجنب الغرق في برك الأمل أو الوقوع ضحية استغلال.
كاتب سوداني
القدس العربي