هل سيعترف الأوروبيون بحدود المغرب؟
هل يحتاجون إلى قرار من مجلس الأمن، أو إلى حكم من محكمة العدل الأوروبية ليعترفوا بوضع هم أدرى وأعلم الناس به؟ لقد رسمت دولتان من دولهم هما بريطانيا وفرنسا قبل عقود ما يقرب من أربعين في المئة من الحدود الدولية الموجودة حاليا. فكيف ينسى الأوروبيون بعدها ما خطه أجدادهم في الشمال الافريقي؟ وهل أن تظاهرهم بالحياد سيبقى ضروريا للحفاظ على مصالحهم هناك؟ رسميا قد يقولون للمغاربة كلاما شبيها بالآتي: أصدقاؤنا الأعزاء اسمحوا لنا أن نؤكد لكم مجددا على أن الارتباط بيننا وبينكم «متين واستراتيجي» وهو يقوم «على إجراءات مشتركة وملموسة»، كما أنه «اكتسب أهمية أكبر في الأوقات الصعبة بالنسبة لأوروبا».
واسمحوا لنا أيضا أن نذكركم بأننا نبقى أكبر شريك تجاري لكم، وأن أكثر من نصف الاستثمارات الأجنبية في بلدكم أوروبية، ولأجل ذلك فإننا نعتبركم صديقنا الاستراتيجي في المنطقة، لكن اعذرونا أيها الأصدقاء الأعزاء، فقد تشابهت علينا الحدود واختلطت، ولعلنا فقدنا التركيز، فلم نعد ندري من أين تبدأ حدودكم، ومن أين تنتهي، يخيل إلينا مرات أن نقطتين صغيرتين جدا تظهران على الخريطة وتدعيان سبتة ومليلية، هما بلدتان إيبيريتان خالصتان، رغم أنهما منصهرتان تماما داخل البر المغربي، ويساورنا الشك في أخرى في أن تكون الصحراء، التي كانت تدعى بالإسبانية مغربية، وحتى نعرف «كوعنا من بوعنا» وتتضح الصورة أمامنا بالكامل، فإننا نؤكد لكم أننا ندعم جهود الأمين العام للأمم المتحدة للتوصل إلى «حل سياسي عادل ومنطقي وعملي ودائم ومقبول من الطرفين لقضية الصحراء». وإن سألتمونا عما يعنيه ذلك، وعن دورنا نحن، أو موقفنا من تلك التسوية التي ندعو إليها، فيؤسفنا أن نخبركم بأننا لا نملك حتى الآن أي جواب.
الأوروبيون يدركون أن «مغرب اليوم هو ليس مغرب الأمس»، لكنهم يمضون في التصعيد، ويدفعون الأمور إلى حدها الأقصى غير مقدرين خطورة العواقب المنجرة عن ذلك
أليس ذلك ما دأبوا على قوله للمغرب باختلاف الصيغ والعبارات؟ لكن إلى متى سيواصلون ترديده؟ وإلى أين تمضي علاقتهم مع الرباط؟ لقد كان وزير الخارجية المغربي ناصر بوريطة دقيقا جدا وواضحا، حين أشار في يناير الماضي وبحضور منسق السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل، إلى أن «الشراكة بين الجانبين تواجه مضايقات قضائية متواصلة، وهجمات إعلامية متكررة» و»هجمات في المؤسسات الأوروبية، لاسيما في البرلمان». والسؤال بعدها هو، ما الذي تغير منذ ذلك الوقت إلى الآن؟ هل أظهر الأوروبيون عزما أو رغبة في تحييد وإزالة كل العوائق والعقبات التي تقف في طريق تلك الشراكة؟ إن كل المؤشرات تدل وعلى العكس تماما من ذلك، على أنهم باتوا يخاطرون بزيادة حدة التوتر الصامت حتى الآن، بينهم وبين الدولة المغاربية، وليس من باب الصدفة أبدا أن يطلق نائب رئيس المفوضية الأوروبية اليوناني مارغريتيس شيناس قبل أيام فقط تصريحات حادة نحو المغرب، خلال مشاركته في منتدى أوروبي حول الأمن والدفاع، لم يكتف فيها باتهام الرباط بما سماه اللجوء إلى تهديدات متنوعة واستخدام المهاجرين كسلاح ضد الاتحاد الأوروبي، على حد وصفه، بل مضى أبعد حد التشديد في سياق حديثه عن بلدتي سبتة ومليلية على أنهما «توجدان ضمن التراب الإسباني والأوروبي»، في خروج غير مألوف عما دأب عليه الاتحاد الأوروبي في السنوات الماضية، من تجنب لأي إشارة سياسية إلى وضع المدينتين. حدث ذلك في الوقت الذي اتفقت فيه الرباط ومدريد بعد أكثر من عام من فتح صفحة جديدة بينهما، في أعقاب الأزمة التي تسبب بها استقبال زعيم البوليساريو في إسبانيا، على أن لا يثير أي طرف منهما، أي ملف قد يكون مصدر قلق أو نزاع في نظر الآخر. وهذا ما يطرح نقطة استفهام كبرى حول الهدف الحقيقي من وراء التصريحات الأخيرة لنائب رئيس المفوضية الأوروبية، التي جددت الناطقة الرسمية باسم الرئيس، الخميس الماضي، التأكيد عليها من خلال قولها بأن «المفوضية الأوروبية تؤيد طرح مارغريتس شيناس في تصريحاته بأن سبتة ومليلية مدينتان إسبانيتان»، فهل أن ما تسعى إليه تلك المفوضية هو التقريب بين دولها، والمغرب؟ أم إشعال فتيل الخلاف من جديد بينه وبين دولة أوروبية بدلا من إطفائه؟ لقد سبق لتلك المتحدثة باسم مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، أن قالت في مارس من العام الماضي، تعليقا على انتهاء الأزمة الإسبانية المغربية في ذلك الوقت، إن «الاتحاد الأوروبي يرحب بأي تطور إيجابي في العلاقات الثنائية بين دوله الأعضاء والمغرب، الذي من شأنه أن يفيد في تطبيق الشراكة الأوروبية المغربية». فهل باتت بعدها أجهزة ذلك الاتحاد تعمل بشكل أو بآخر على تخريب العلاقات الثنائية بين دوله والمغرب؟ أم أن تلك الدول تلعب لعبة الازدواجية مع الرباط، فتمد لها يدا في موضع دون الآخر؟ إن ما لا يفهمه المغاربة هنا هو كيف يحصدون اعترافات أكثر من عشر دول أوروبية بمغربية الصحراء، ومن ضمنها إسبانيا وفرنسا وألمانيا، ثم يبقى الموقف الأوروبي من النزاع الصحراوي على حاله، في وقت يعلمون فيه جيدا أن النفود الذي تملكه، وبالأساس برلين وباريس في الاتحاد الأوروبي، يسمح لهما حتما بفرض جزء كبير من توجهاتهما ومواقفهما الخارجية على باقي أعضائه. لقد ضاقوا ذرعا بما يرونه منذ سنوات تماهيا في النفاق من هؤلاء. ولم يكتف العاهل المغربي في خطابه في أغسطس الماضي بالإشارة فقط إلى أن ملف الصحراء هو» النظارة التي ينظر بها المغرب إلى العالم، وهو المعيار الواضح والبسيط الذي يقيس به صدق الصداقات ونجاعة الشراكات»، بل دعا أيضا بعض الدول من «شركاء المغرب التقليديين والجدد»، إلى «أن توضح مواقفها وتراجع مضمونها من تلك القضية بشكل لا يقبل التأويل». وما طلبه محمد السادس من شركاء بلاده، ليس إطلاق تصريحات من هنا، أو هناك، بل القطع مع الغموض الذي يتعاملون به مع ما تعتبره الرباط وحدتها الترابية، فالعبارات الفضفاضة التي اعتادوا على ترديدها من قبيل الإعراب عن دعمهم لجهود المبعوث الأممي للصحراء، وتشجيعهم لأطراف النزاع على التوصل إلى حل سياسي توافقي وواقعي، من دون الحسم في تحديد طبيعة ذلك الحل لم تعد مقبولة في المغرب. والأوروبيون يعلمون جيدا أن هناك مرحلة جديدة ويدركون أن «مغرب اليوم هو ليس مغرب الأمس»، لكنهم يمضون في التصعيد، ويدفعون الأمور إلى حدها الأقصى غير مقدرين خطورة العواقب الناتجة عن ذلك. ولعل أغرب ما يفعلونه الآن هو أنهم يبررون عدم شروعهم في مفاوضات جديدة مع الرباط حول تجديد اتفاقيتين للصيد البحري والتجارة، بأنهم ينتظرون حكما لمحكمة العدل الأوروبية، سيحدد إن كان من الجائز، أم لا أن تشمل الاتفاقيات مع المغرب الصحراء. غير أنهم لا يدرون أن السحر قد ينقلب عاجلا على الساحر، وان ذلك قد يجعلهم يغادرون المنطقة الرمادية التي قبعوا فيها. أما كيف سيكون رد المغرب حينها؟ وهل انه سيتعامل معهم جماعيا أم فرديا؟ ذلك ما سيتضح في وقته.
كاتب وصحافي من تونس
القدس العربي