عن قرن طويل من حياة هنري كيسنجر
«بلغ عدد الجثث التي تسببت أفعال هنري كيسنجر بموت أصحابها، الملايين، أثناء عمله تحت قيادة نيكسون، أو من الممارسات التي قام بتطويرها، أو دعمها وأدلى بدلوه فيها… وأقل ما يمكنه القيام به هو إضافة جثته إليها». بمثل هذه السخرية المريرة كان تعليق موقع تأسس منذ زمن لمحاكمة كيسنجر، كما يقول. أورد الموقع نفسه اقتباساً من كتاب «رحلة طباخ» لأنتوني بوردان، قال فيه:
«بمجرد أن تزور كمبوديا، لن تتوقف أبدا عن الرغبة في ضرب هنري كيسنجر حتى الموت بيديك المجردّتين، لن تتمكن مرة أخرى من فتح صحيفة وقراءة شيء عن ذلك المخادع الغادر والمراوغ والقاتل، الذي يجلس للدردشة اللطيفة مع تشارلي روز، أو يحضر بربطة عنق سوداء حفلاً لافتتاح مجلة برّاقة جديدة، من دون إحساس بالاختناق. شاهد ما فعله هنري في كمبوديا – ثمار عبقريته في الحنكة السياسية – ولن تفهم أبدا سبب عدم جلوسه في قفص الاتهام في لاهاي بجوار ميلوسيفيتش».
وفي الواقع، لم تخلُ الصحافة الأمريكية في السنوات الأخيرة من المقالات التي تعبّر عن المفاجأة، لأنه لم يمت حتى الآن، ومع بلوغ هنري كيسنجر المئة من عمره منذ أيام، ازدحمت صفحات الصحف ومواقع الإنترنت والتواصل الاجتماعي بعدد هائل من تلك المرارات «اللئيمة»! وتواردت الخواطر:
كان كيسنجر مستشاراً للأمن القومي، ثمّ وزيراً للخارجية في ولاية الرئيس نيكسون ثم نائبه الذي خلفه بعد فضيحة ووترغيت جيرالد فورد. عايش ثورات الستينيات، ولعب دوراً مفصلياً في حرب فيتنام ومفاوضات الانسحاب منها، وحرب أكتوبر ومفاوضات ما بعدها، وأبدع في مسألة التقارب مع الصين الشعبية والاعتراف بها، وبدبلوماسية» البنغ بونغ» التي ترافقت معها. حالياً تحتفظ المشاكل مع الصين بمفردات تلك التسوية، التي نسمعها في نشرات الأنباء.
جلس مؤخّراً في مقابلة مع شبكة «سي بي إس»، حيث افتتح المذيع الشهير حديثه عن تشكيك الناس وتساؤلهم حول «شرعية إجراء مقابلة معك» لأن لديهم «شعوراً قوياً تجاه ما يعتبرونه – بلغتهم- إجرامك». أجاب كيسنجر: «هذا انعكاس لجهلهم». تحدث كوبل عن دور كيسنجر في حملة القصف الأمريكية في كمبوديا، التي استمرت من عام 1969 إلى عام 1973، ما أسفر عن مقتل ما يصل إلى 150 ألف مدني، إضافة إلى الأعداد الكبيرة من الضحايا، قام الطيران الأمريكي بطلب من كيسنجر بإلقاء آلاف الأطنان من القنابل، وخرّب مساحات هائلة من الأراضي الكمبودية. أسهم ذلك مباشرة بالتعجيل بالإطاحة بالحكومة الكمبودية على يد الخمير الحمر وبول بوت – زعيمهم المتوحّش – الذين قاموا بالإبادة الجماعية المليونية. طبعاً يتحمّل كيسنجر مسؤوليته عن أكثر من مليونين من الضحايا المدنيين في فيتنام، وفي انقلاب تشيلي الدموي على الليندي المنتخب بشكل شرعي.. وغير ذلك!
لعلّ «الحرب الباردة» التي كان كيسنجر نجم أحداث فترتها الذهبية، شبيهة بموجة السياسات التي أعقبت، وقامت بإعادة رسم العالم بعد الحروب النابليونية الكبرى
ربّما كان الرجل أشهر سياسي أمريكي في النصف الثاني من القرن العشرين، ما جعل البعض يستذكر مترنيخ، بطل مؤتمر فيينا ومبادئ السياسة الحديثة في القرن التاسع عشر. لعلّ «الحرب الباردة» التي كان كيسنجر نجم أحداث فترتها الذهبية، شبيهة بموجة السياسات التي أعقبت، وقامت بإعادة رسم العالم بعد الحروب النابليونية الكبرى. يرتبط بهما كليهما مفهوم العقلانية السياسية، قبل جون ميرشماير وتحديثاته على الموضوع. من بين مآثره الكثيرة، يخطر على البال مسألة تخصّ السوريين، لم يستطيعوا حلّ كلّ متعلّقاتها، رغم مرور زمن طويل عليها، وهي محادثات فكّ الارتباط – أو فصل القوات – بين القوات الإسرائيلية وكلّ من الجيشين المصري والسوري. وقد استغرقت تلك المحادثات عدة أشهر، اشتهر فيها تعبير «الجولات المكوكية»، التي قام بها كيسنجر بين الأطراف المعنية، وتمّ في نهايتها توقيع «اتّفاق الكيلومتر 101» مع مصر السادات، واتفاق يخصّ الجولان مع سوريا حافظ الأسد، الذي خرج الوزير الأمريكي منه يحمل إعجاباً خاصاً به. فهم كيسنجر أن الأسد لا يريد توقيع اتّفاق سلام في الأفق المنظور يومذاك لأسبابه الخاصة به، لكنه يريد السلام ذاته. واستطاعا معاً تحقيق اتّفاق «صغير» يعادل سلاماً «كبيراً»، أي اتفاق لفصل القوات ووقف الأعمال العدوانية، لكنه ثابت وصلب وطويل العمر، ما زال حيّاً حتى الآن. تألّفت الاتفاقية من فقرتين (أ) و(ب). نصّت الأولى باختصار كبير ووضوح بليغ على أنه «تراعي إسرائيل وسوريا مراعاة دقيقة وقف إطلاق النار في البر والبحر والجو، وتمتنعان عن كل الأعمال العسكرية ضد بعضهما بعضاً منذ توقيع هذه الوثيقة، تطبيقاً لقرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة ذي الرقم 338 المؤرخ في 22 تشرين الأول/أكتوبر 1973». ونصّت الثانية من دون بلاغة، على التفصيلات اللازمة على الأرض، من خلال خطين أيضاً، وبعض التفرّعات الخاصة بالقنيطرة مثلاً.
كانت النقطة الأخيرة من الفقرة الثانية تقول إن «هذه الاتفاقية ليست اتفاقية سلام، بل هي خطوة نحو سلام عادل ودائم». وكانت فتحاً مبيناً، لم يشبه شيئاً آخر في التاريخ. وضع قواعد «سلام دائم» من دون أن يكون هنالك «سلام»، وأعتقد أن كيسنجر يستطيع الفخر بما فعله، بفهمه جيداً لما يريده ولا يريده حافظ الأسد، ثمّ إقناع الإسرائيليين بتلك التفاصيل. من بين خصائصه «الديالكتيكية» أيضاً، التي ربّما تبيّن خلفية نجاحه في تحقيق سلام فصل القوات بين إسرائيل وسوريا في تناقضها، ما يشتهر عنه من تعبيرات مختلفة، وفي مناسبات شتّى عن» اللاسامية» في تفكيره وعقله، الاجتماعي والسياسي؛ ولكن أيضاً مع وجود قدرة فعلية على إقناع الإسرائيليين بأنه صديق لا يُعوّض لهم، يقف ويفعل في الملمّات ما ينبغي له من مواقف وأفعال.
في أواخر عام 2010، عاد ريتشارد نيكسون إلى الأخبار، مع الكشف عن مجموعة أشرطة تسجيل قديمة من أيامه في المكتب البيضاوي. أظهرته في أسوأ حالاته المتعصبة، حيث تلفّظ بالإهانات ضد الأيرلنديين والإيطاليين والسود، لكنه ادّخر أقوى حمض لديه لليهود، إذ قال: «اليهود هم مجرد شخصية عدوانية وجلفة وبغيضة». لكن معاداة نيكسون الراسخة الضمنية للسامية تكاد تكون معروفة. ما دفع على العجب هو صوت هنري أ. كيسنجر، الذي قال لنيكسون في عام 1973 إن مساعدة اليهود السوفييت على الهجرة والهروب من الاضطهاد والنظام الشمولي، كانت قضية كبيرة في تلك الأيام «ليست هدفا للسياسة الخارجية الأمريكية». والأكثر إثارة للاستغراب أنه أضاف: «حتى إذا وضعوا يهودا في غرف الغاز في الاتحاد السوفييتي، فهذا ليس مصدر قلق أمريكي. ربما يكون مصدر قلق إنساني». أن يقول هذا فتى يهودي هرب من ألمانيا النازية في مراهقته، بعد أيام من بداية الهجوم الكبير على اليهود فيها في «ليلة الكريستال»، كان صادماً لكثيرين. إلّا أنه على الرغم من الشتائم التي كالها له أولئك، من قبيل «الحقير» و»المنافق» و»المثير للاشمئزاز»؛ وعلى الرغم من رابطة مكافحة التشهير – الصديقة لإسرائيل – وصفت التصريحات تلك بأنها شائنة، فقد استدركت قائلةً إنها «لا تقوّض المساهمات المهمة، والإرث الطويل لهنري كيسنجر»، وأشارت إلى أن أجواء العداء للسامية السائدة حينها في البيت الأبيض ربّما تكون مسؤولة عن ذلك». وقال المدير التنفيذي للرابطة نفسها، ديفيد هاري، في بيان له: «ربما شعر كيسنجر أنه، بصفته يهوديا، عليه أن يبذل جهدا إضافيا ليثبت للرئيس أنه لا يوجد شك في موضع ولائه»!
كاتب سوري
القدس العربي